السيرة النبوية

جديد مقاطعة قريش الرسول

مقاطعة قريش للرسول

استمرّت قريش في حملتها للصدِّ عن دعوة الإسلام والتشكيك فيها مُتّبعَة كل ما يُمكِّنها من تحقيق تلك الغاية، إلى أن انتشر الإسلام بين القبائل وعلا أمره بإسلام عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنهما-، وهجرة المسلمين الأولى إلى الحبشة التي أسفرت عن إيجادهم بلداً آمناً يحكمُه ملكٌ عادلٌ يمْنعهم ويحميهم من أذى قريش،[١] فلجأت قريش حينئذ لِأسلوبٍ أشدّ إضراراً وأعظم خطراً لِتحقيق مُرادها وهو مقاطعة بني هاشم وبني المطلب المسلم منهم والكافر باستثناء عم النبي أبي لهب، فكتبوا العديد من القرارات المُؤَكِّدَة للمقاطعة على صحيفة مختومةٍ بأختامهم وعُلِّقت داخل الكعبة هادفين بذلك ضمان احترام الجميع لها، والوفاء بها، ومنع التّمرُّد عليها الذي يُعدّ خروجاً على عقيدتهم وتقاليدهم.[٢] وكان من تلك القرارات التي تضمنتها اتفاقية المقاطعة:[١][٢][٣]

  • الامتناع عن تزويج المسلمين ومن في حِلْفهم أوالزواج منهم.
  • مَنع التزاور بينهم.
  • الامتناع عن بيعهم والشراء منهم، ومنعهم من الرعي في المراعي.
  • الامتناع عن مجالستهم والاختلاط بهم بأي شكل من الأشكال، مع ضرورة بقاء سريان هذه القرارات حتى يوافقوا على تسليم رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- إليهم لقتله والتّخلص منه.

وبناءاً على هذه الاتفاقية اضطر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- والمسلمون للانتقال إلى شعب يسمّى شِعب أبي طالب وانحاز إليهم كل من بني هاشم وبني المطلب تعصُّباً ومؤازرةً لقومهم ما عدا عمّه أبو لهب الذي منعه شدّة بغضه وكراهيته للإسلام من مراعاة حُرْمة القرابة والرحم فبقي في مكة، وتحمَّل المسلمون ومن معهم ما أصابهم من الحرمان والجوع والظلم بحقّهم إلى أن شاء الله -تعالى- كشف الظلم بإنهاء المقاطعة.[٣][٢]

معاناة المسلمين في المقاطعة

أصاب المسلمون المشقة والتعب، وقد سبّب لهم الجوع الإرهاق والإنهاك، وبقي المسلمون رغم ذلك صابرين ومحتسبين،[٤] وقد انقطع وصول الطعام والمؤن للمسلمين فكانوا لا يصلهم شيء إلا سرّاً، حتى أنهم لجؤوا إلى أكل ورق الشجر والجلود من انعدام وجود الأطعمة، وكانت تُسمع أصوات النِّساء والأطفال يتضورون من الجوع في جوانب الشِّعب،[٥] ومات منهم من مات حتى أن السيدة خديجة بنت خويلد زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، وعمه أبو طالب ماتوا إثر الجهد الذي أصابهم في الشِّعب، وكان موتهما بعد الخروج من الشِّعب بستة أشهرٍ تقريباً.[٦]

انتهاء المقاطعة وفكّ الحصار

صبر المسلمون على الظلم والأذى الذي نالَهم بسبب المقاطعة ثلاثة أعوام حتى اتّفق نفر من قريش على ضرورة نقض المقاطعة وإنهائها،[٧] وكان هشام بن ربيعة صاحب المبادرة حيث كان ذا شأن في قومه وتَجمعُه صلة قرابةٍ ببني هاشم، فتوجّه إلى رجالٍ من قريش ممّن تحوي قلوبهم الرقة والرجولة فأثار حميّتهم ومروءتهم،[٨] وكذلك سار إلى زهير بن أمية الذي كان أخواله من بني المطلب فعرض عليه نقْض المقاطعة فوافقه لكنّه رأى أنّه لا يملك فعْل شيء بمفرده فأعلمه بمناصرته له، ثمّ سار إلى المِطْعم بن عَدِي وعرض عليه الأمر ذاته وسأله إن كان يُرضيه هلاك بني هاشم وبني المطلب فنفى رضاه عن ذلك لكنّه رأى أنّه لا يملك فعل شيء بمفرده فأعلمه بأنّه هو وزهير يُناصرانه، ثمّ سار إلى أبي البخْتُري بن هشام وعرض عليه الأمر ذاته فوافقه لكنّه رأى أنّه لا يملك فعل شيء بمفرده فأعلمه بأنّه وزهير والمطعم يناصروه، ثمّ سار أخيراً إلى زمعة بن الأسود بن عبد المطلب وعَرَض عليه الأمر ذاته فوافقه لكنّه رأى أنّه لا يملك فعل شيء بمفرده فأعلمه بأنّه وثلاثة أخرين يُناصرونه وأفصح له عن أسمائهم، فاجتمع الخمسة ليلاً وأجمعوا على نقض المقاطعة.[٧]

وقد توجّه زهير بن أمية صباح اليوم التالي إلى الكعبة وطاف سبعاً وتحدّث إلى الناس بأمر نقض المقاطعة وأنّه ليس من حسن الجوار والعشرة أن يأكلوا ويشربوا ويرعَوا ماشيتهم، بينما أهلهم من بني هاشم وبني المطلب يعانون من شدة الجوع بسبب المقاطعة التي دامت ثلاث سنوات،[٨][٧][٣] لكن سرعان ما تدخّل أبو جهل لِإيقاف ما عزم عليه زُهيْر لكنّه وجد أربعة رجال يقفون إلى جانب زهير يُناصرونه ويُؤازرونه،[٧] وفي تلك الأحيان أرسل الله الوحي إلى النبي يخبره أن الوثيقة قد أكلتها الأَرَضة وهي الحشرة التي تتلف الأوراق والأقمشة، وأنّ الوثيقة لم يتبقى منها سوى باسمك اللهم، فلمّا عرض النبي هذا الأمر على عمه أبي طالب خرج عمُّه إلى قريش وأخبرهم بأن يأتوا بالصحيفة فإن كانت كما وضعوها أول مرة فسيُسلّم إليهم النبي ليقتلوه، وإن كانت كما أخبر النبي فسينهون الحصار، ففرحوا بذلك وتوجهوا لجلب الصحيفة وإذا بأنّ الذي أخبر النبي به عمه صدق فأصابتهم الدهشة فنُكِسَت رؤوسهم وخاب مَطمَعهم في قتل رسول الله،[٩] وبادر المطعم بن عدي بشقّ الصحيفة وتمزيقها وذهب مع رجال قريش الأربعة الذين اتّفق معهم على نقض المقاطعة إلى شعب أبي طالب وطلبوا من بني هاشم وبني المطلب العودة إلى مساكنهم.[٧]

أساليب صدّ قريش عن دعوة الإسلام

اتّبعت قريش العديد من الأساليب والوسائل التي من شأنها تشويه دعوة الإسلام والقضاء عليها ومن ذلك ملاحقة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- لتحذير الناس من طاعته والاستماع لِما يدعو إليه وتكذيبه ورميه بالحجارة، لا سيّما عندما كان يذهب -صلّى الله عليه وسلّم- إلى أسواق مكّة كسوق عكاظ ومجنة وذي المجاز، والتّجمعات الكبيرة التي كانت تَحشد الكثير من العرب كمواسم الحجّ وممّا يدلّ على ذلك قول الصحابة عن النبي أنه: (كان يَعْرِضُ نفسَهُ على الناسِ في المَوْقِفِ، فيقول: ألا رجلٌ يَحْمِلُنِي إلى قَوْمِهِ، فإنَّ قُرَيْشًا قد مَنَعُونِي أنْ أُبَلِّغَ كَلامَ ربِّي)،[١٠] وما رواه ربيعة بن عباد الديلي أنّه قال: (رأَيْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَصْرَ عَيْنِي بسُوقِ ذي المَجازِ، يقولُ: يا أيُّها الناسُ، قُولوا: لا إلهَ إلا اللهُ، تُفلِحوا)[١١] إلى أن قال: (يقولُ: أيُّها الناسُ، قُولوا: لا إلهَ إلا اللهُ، تُفلِحوا، إلا أنَّ وراءه رجُلًا أحوَلَ وَضِيءَ الوجهِ، ذا غَدِيرتَيْنِ، يقولُ: إنَّه صابئٌ كاذبٌ، فقلتُ: مَن هذا؟ قالوا: محمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ، وهو يذكُرُ النُّبوَّةَ، قلتُ: مَن هذا الذي يكذِّبُهُ؟ قالوا: عَمُّهُ أبو لَهَبٍ).[١١][١٢]

كما كانت قريش تنتهز فرصة مجيء أيّ أحد إلى مكّة فتُسارع إليه واصفةً رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بأنّه ساحرٌ ويسعى لبثِّ الفُرقة والنِّزاع بين المرء وزوجه وبين المرء وأخيه حتى وصل الخوف ببعضهم إلى حشْوِ آذانهم بالقطن خشية سماع شيء ممّا يدعو إليه رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، وكانت قريشٌ أيضاً حريصةً على الطَّعن في حسن نيّته -صلّى الله عليه وسلّم- باتّهامه في السعي لِتحقيق مآرب ومطامع شخصية تتمثَّل بنيْل القيادة والزعامة من خلال ما يدعو إليه وقد دلّ على ذلك قوله -تعالى-: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَـهًا وَاحِدًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ* وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ).[١٣][١٢]

المراجع

  1. ^ أ ب موسى العازمي (1432هـ – 2011م)، اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون (الطبعة الأولى)، الكويت: المكتبة العامرية، صفحة 392، جزء 1. بتصرّف.
  2. ^ أ ب ت محمد النجار، القول المبين في سيرة سيد المرسلين، بيروت: دار الندوة الجديدة، صفحة 145-147. بتصرّف.
  3. ^ أ ب ت عمر عبد الكافي، مقتطفات من السيرة، صفحة 21، جزء 12. بتصرّف.
  4. صالح بن طه عبد الواحد (1428 هـ)، سبل السلام من صحيح سيرة خير الأنام عليه الصلاة والسلام (الطبعة الثانية)، الأردن: الدار الأثرية، صفحة 168، جزء 1.
  5. سعيد حوَّى (1995 )، الأساس في السنة وفقهها (الطبعة الثالثة)، القاهرة : دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، صفحة 262، جزء 1.
  6. راغب السرجاني (21-4-2010)، “عام الحزن – وفاة أبي طالب بن عبد المطلب”، islamstory.com، اطّلع عليه بتاريخ 5-11-2020.
  7. ^ أ ب ت ث ج موسى العازمي (1432هـ – 2011م)، اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون (الطبعة الأولى)، الكويت: المكتبة العامرية، صفحة 398-403، جزء 1. بتصرّف.
  8. ^ أ ب أبو الحسن الندوي (1425ه)، السيرة النبوية (الطبعة الثانية عشرة)، دمشق: دار ابن كثير، صفحة 206-207. بتصرّف.
  9. عبد اللطيف سلطاني ( 1402هـ – 1982م)، في سبيل العقيدة الإسلامية (الطبعة الأولى)، الجزائر: دار البعث، صفحة 89-90. بتصرّف.
  10. رواه الألباني، في السلسلة الصحيحة، عن جابر بن عبد الله، الصفحة أو الرقم: 1947 ، صحيح.
  11. ^ أ ب رواه شعيب الأرناؤوط ، في تخريج المسند، عن ربيعة بن عباد الديلي، الصفحة أو الرقم: 16023، صحيح لغيره.
  12. ^ أ ب سلمان العودة، دروس للشيخ سلمان العودة، صفحة 15، جزء 31. بتصرّف.
  13. سورة ص، آية: 5-6.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى