محتويات
الدّين الإسلاميّ
الإسلام دين يُسر وليس دين عُسر، جاءت أحكامه تُراعي أحوال النّاس، فالله -سبحانه وتعالى- قد فرض على عباده العبادات وأباح لهم الرّخص لمن لا يستطيع القيام بها أو يشقّ عليه فرض من الفرائض، قال الرّسول -عليه الصّلاة والسّلام-: (إنَّ اللَّهَ يحبُّ أن تؤتَى رُخصُهُ، كما يحبُّ أن تؤتَى عزائمُهُ).[١] والمسح على الجَوارب في الوضوء رخصة تُهوّن على المُسافر طريقه وتُخفّف من مَشقّة البَرد للمُقيم في الشّتاء البارد، ولها شروط لا بدّ من مَعرفتها ليكون فعلها صحيحاً مقبولاً بإذنه تعالى.
الرُّخص في الشريعة
الرُّخصة لغةً تعني عكس التشديد، وترخيص الله للعبد في أمر هو تخفيف الله عنه.[٢] وأمَّا في الاصطلاح فتُستعمل على معنيين: الأول أنَّها حكمٌ نَزَل يخفِّف عن النّاس بعذر بعد حكم كان فيه شيء من العسر عليهم. والثاني، وهو الأدق، أنّ الرخصة هي ما تمَّت استباحته مع قيام المحرِّم،[٣] والتيسير مقصدٌ من مقاصدِ الشريعة الإسلامية إذ جاءت تراعي أحوال الناس وأمور حياتهم، والمسح على الجوارب مثالٌ جليٌّ على هذا. كما أنَّ التَّرخيص فرعُ يندرجُ تحت أصلٍ كُليٍّ من أُصولِ الشريعةِ ألا وهو أصلُ رفع الحرج الذي يقتضي يسر التكاليف على العباد في أصلها، والرُّخَص تخفيف لما يشقّ وقت إتيان تطبيق الحكم.[٤]
تعريف المسح
المسح لغةً هو تمرير اليد على الشّيء.[٥] أمّا شرعاً فهو إصابة البلل خُفّاً مَخصوصاً بشروط مَخصوصة في وقت مخصوص وطريقة مخصوصة.[٦]
أمّا الجورب فهو ما يرتديه الإنسان في قَدَمه إن كان مَصنوعاً من القطن، أو الكتّان، أو الصّوف، أو ما شابه هذا.[٧]
الفرق بين الخف والجورب
الخُفُّ مفرد خِفاف، والخفُّ الذي يصحُّ المسح عليه هو الذي يرتديه الإنسان في قدمه بغض النظر مما صُنع كالصوف أو الوبر أو الجلد أو غيرهم، حتى يصل إلى الكعبين (والكعب هو العظمة البارزة في القدم)، وأمّا الجورب الذي يصحُّ المسح عليه فهو حاملٌ لهذه المواصفات إلا أنه لا يكون من الجلد.[٨]
حكم ودليل المسح على الجوربين
اتّفقت المذاهب الأربعة على جواز المسح على الخُفّين للمقيم وللمسافر، مع اختلاف فيما بينهم في الشروط. وحُكم المسح على الجوارب يأخذ حُكم المسح على الخُفّين مع مراعاة وصفه أنّه مصنوع من غير الجلد، فعلى هذا الوصف، لم يُجِز المسح على الجوارب المالكيّة وأبو حنيفة لاشتراطهم أن يكونَ من الجلد، كذلك، لم يجزه الشّافعيّة والحنَفيّة، إذ قالوا بعد جواز المسح على ما هو منسوج لا يمنع نفوذ الماء إلى القدمين (في غير مكان الخياطة). وأجاز المسح على الجوارب (بوصفها مصنوعة من القماش) الحنفيّة والحنابلة، بشرط كون الجوارب ثخينة، وتفصيل الشروط مفصّل فيما يأتي.[٩]
وكباقي التّكاليف والأحكام الشرعيّة فالمسح رخصة ثبتت بالدّليل، فعن جابر بن عبدالله -رضي الله عنه- قال: (بال جَريرُ بنُ عبدِ اللهِ ثمَّ توضَّأ ومسَح على خُفَّيْهِ فقيل له: أتفعَلُ هذا؟ فقال: وما يمنَعُني وقد رأَيْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يفعَلُه؟).[١٠] وعن المُغيرة بن شعبة قال : (رأَيْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم توضَّأ فغسَل وجهَه ويدَيهِ ثمَّ مسَح على خُفَّيهِ، فقُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، تمسَحُ على خُفَّيْكَ؟ قال: إنِّي أدخَلْتُ رِجْليَّ وهما طاهرتانِ).[١١]
شروط المسح على الجوارب
هناك شروط لا بدّ من توفّرها للأخذ بهذه الرّخصة، وعليه فأنّه لا فرق بين الخُفّين والجوربين، فيُحال حكم الخُفّين على الجوارب:
- الشّروط المُتّفق عليها:[١٢][١٣]
- أن يُلبسا على طهارةٍ كاملةٍ، عن المُغيرة بن شُعبة قال: (كُنت مع النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- في سفر، فأهويت لأنزع خُفيّه، فقال: دعهما فإنّي أدخلتهما طاهرتين. فمسح عليها).[١٤]
- أن يكون الجورب طاهراً غير نجس.
- أن يكونا ساترين لكامل موضع القدمين المفروض غسله في الوضوء، وهو ما يشمل الكعبين. فلا يصحّ المسح على الجوارب التي لا تغطي الكعبين.
- إمكانية أن يمشي بهما، على خلاف في تقدير المسافة التي يمكن المشي بهما.
- الشّروط المختلف فيها:[١٣]
- أن يكونا صحيحان سَليمَان من الخروق، واختلفوا في قدر الخرق اليسير المسموح فيه؛ فالحنابلة والشافية لم يجيزوا المسح عليهما إن كان فيها خرق ولو يسيراً، وأجازوها المالكية والحنفيّة.
- أن يكونا مصنوعان من الجلد، حيثُ اشترط المالكية ذلك، فلا يصح عندهم المسح على الخُفّ المصنوع من القماش، ولا الجوارب كذلك، وأجاز الجمهور غير المالكيّة المسح على غير المصنوع من الجلد من قماش وغيره، بشرط أن يكون مانعاً من وصول الماء إلى القدمين، وبتفصيل الشروط الأخرى.
- أن يكون لبسه مباحاً، وهو شرط عند الحنابلة والمالكية، فلا يجوز عندهم المسح على الحفين المسروقين، أو المصنوعين من الحرير مثلاً. بينما يرى الشافعية على الصحيح عندهم بأنه لا يُشترط ذلك.
- ألا يكونا شفّافين يُظهران القدم من خلالهما، وهو شرط عند الحنابلة، أما الحنفية والشافعية، فيُشترط كونها مانعين لوصول الماء كما سبق بيانه، والمالكية، أن يكونا من الجلد.
بناءً على ما سبق من شروط عامّة في المسح على الخُفّين، تناول الفقهاء مسألة المسح على الجوربين على التفصيل الآتي:
- ذهب الجمهور إلى جواز المَسح على الجوارب في حالتين كلتاهما تمنع وصول الماء إلى القدمين:[٧]
- أن يكونا مجلّدين: أي يكسوهما الجلد، وفي هذه الحالة يكونان مثل الخفّ.
- أن يكونا منعلين: أي لهما نعلٌ من الجلد.
- شروط الحنابلة والحنفيّة:[١٣]
- أن تكون الجوارب ثخينة لا يظهر منها شيء.
- أن يستطيع مُتابعة المشي فيهما، وأن يثبت بنفسه (دون الحاجة لرباط)، واستدلّوا بما رواه المُغيرة بن شُعبة: (أن النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- مسح على الجوربينِ والنَّعلينِ).[١٥]
مدة المسح
يرى جمهور الفُقهاء أنّ مُدّة المسح يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيّام ولياليها للمُسافر. والمالكيّة يَرون عدم تحديد مدّة له.[١٣]
عن شريح بن هانئ قال: (أتيتُ عائشةَ رضي الله عنها أسألُها عن الخُفَّيْنِ، فقالت: عليك بابنِ أبي طالبٍ فاسألْهُ فإنَّهُ كان يُسافرُ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فأتيتُهُ فسألتُهُ، فقال: جعل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ثلاثةَ أيامٍ ولياليهِنَّ للمُسافرِ، ويومٌ وليلةٌ للمُقيمِ).[١٦]
كيفية المسح
وللمسح على الجوارب كيفية محددة معلومة في الشرع فعن عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: (لو كان الدّين بالرّأي لكان أسفل الخفّ أولى بالمسح من أعلاه، لقد رأيت رسول الله عليه الصّلاة والسّلام يمسح على ظاهر خُفيّه).[١٧] ويكون المسح بالابتداء من أصابع القدم خطوطاً بأصابع اليد باتّجاه الساقّ، ويستنتج مما ورد عن عليّ -رضي الله عنه- أن المسح يكون لأعلاهُ لا لأسفلهِ، ويختلف قدر المسح بين المذاهب وهو كالآتي:[١٨]
- عند الشافعيّة: لا يُقدّر في المسح شيء مُعيّن.
- عند المالكيّة: الواجب مسح جميع أعلى الخُفّ ويُستحبّ أسفله.
- عند الحنفيّة: المسح يكون قدر ثلاثة أصابع من أصغر أصابع اليد على ظاهر مُقدّم كل رجل، مرّة واحدة.
- عند الحنابلة: أن يكون الممسوح من ظاهر الخفّ على شكل خطوط بالأصابع، ولا يُسنّ مسح أسفل الخفّ.
مُبطلات المسح
يَبطل المسح على الجوارب بعدّة أمور هي كالآتي:[١٩]
- نواقض الوضوء: فالمسح على الجوارب جزء من الوضوء ينتقض بنقضه.
- إن حدث للمَاسح مُوجب غسلٍ كالجنابة أو الحيض.
- خلع الخُفّين أو خلع أحدهما، أو انخلاعهما أو أحدهما، وفي هذه الحالة يرى الجمهور عدا الحنابلة أنّ عليه غسل رجليه لبُطلان طهرهما، ولكان قد انتزع من رجل واحدة فلا يكفي غسلها وحدها، إذ لا يجوز الجمع بين غسل ومسح.
- انتهاء مدّة المسح.
المراجع
- ↑ رواه المنذري، في الترغيب والترهيب، عن ابن عباس، الصفحة أو الرقم: 147\1.
- ↑ ابن منظور (1414)، لسان العرب (الطبعة الثالثة)، بيروت: دار صادر، صفحة 40، جزء 7. بتصرّف.
- ↑ مجموعة مؤلفين، الموسوعة الفقهية الكويتية (الطبعة الثانية)، الكويت: دار السلاسل، صفحة 212، جزء 14. بتصرّف.
- ↑ مجموعة مؤلفين، الموسوعة الفقهية الكويتية (الطبعة الثانية)، الكويت: دار السلاسل، صفحة 152، جزء 22.
- ↑ الطاهرأحمد الزاوي (1980)، مختار القاموس (الطبعة الأولى)، ليبيا-تونس: الدار العربية للكتاب، صفحة 574.
- ↑ موسى عبدالهادي شومان (2003)، المنتقى في أحكام الطهارة والصلاة (الطبعة الأولى)، عمان-الأردن: دارالنفائس، صفحة 39.
- ^ أ ب مجموعة مؤلفين (1997)، الموسوعة الفقهية الكويتية (الطبعة الأولى)، مصر: مطابع دار الصفوة، صفحة 271، جزء 37.
- ↑ عبدالرحمن الجزيري (2003)، الفقه على المذاهب الأربعة (الطبعة الثانية)، بيروت-لبنان: دار الكتب العلمية، صفحة 126، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته (الطبعة الرابعة)، دمشق: دار الفكر، صفحة 483، جزء 1.
- ↑ رواه ابن حبان، في صحيح ابن حبان، عن جابر بن عبدالله، الصفحة أو الرقم: 1337.
- ↑ رواه ابن حبان، في صحيح ابن حبان، عن المغيرة بن شعبة، الصفحة أو الرقم: 1326.
- ↑ السيد سابق (1998)، فقه السنة النبوية (الطبعة الحادية والعشرون)، دمشق: دار ابن كثير، صفحة 46، جزء 1.
- ^ أ ب ت ث مجموعة مؤلفين (1997)الموسوعة الفقهية الكويتية (الطبعة الأولى)، مصر: مطابع دار الصفوة للطباعة والنشر، صفحة 265-268، جزء 37.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن المغيرة بن شعبة، الصفحة أو الرقم: 206.
- ↑ رواه الألباني، في إرواء الغليل، عن المغيرة بن شعبة، الصفحة أو الرقم: 101.
- ↑ رواه أحمد شاكر، في مسند أحمد، عن شريح بن هانئ، الصفحة أو الرقم: 301/2.
- ↑ رواه محمد الأمين الشنقيطي، في أضواء البيان، عن علي بن أبي طالب، الصفحة أو الرقم: 40/2.
- ↑ وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته (الطبعة الرابعة)، دمشق: دار الفكر، صفحة 476.
- ↑ مجموعة من المؤلفين، الموسوعة الفقهية الكويتية (الطبعة الأولى)، مصر: مطابع دار الصفوة، صفحة 296-270، جزء 37. بتصرّف.