من رحمة الله سبحانه وتعالى بهذه الأمة، أن جعل علماؤها يختلفون في بعض المسائل والأحكام، وهذا من باب التيسير والتخفيف، لذلك اشتهر بين الناس في أمور الفقه وأصوله؛ فاشتهرت أربعة مذاهب وهي، الشافعي، والحنبلي، والحنفي، والمالكي.
وسنتطرق في هذا المقال بالحديث عن مذهب الإمام مالك، إمام دار الهجرة، الذي كان يخاف الله سبحانه حينما يسأل عن مسألة لا يعرفها، فيجيب:”لا أدري”.
كانت للإمام مالك رحمه الله طريقة في الفقه، وأمور الشريعة ضمنها مذهبه -المذهب المالكي-، وهي أولاً يأخذ بما جاء في الكتاب، فإن لم يجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجد كان يأخذ بفتوى الصحابة لأنهم عايشوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وفهموا معنى اللغة والتفسير والأحكام جيداً، ثم ينظر إلى إجماع علماء الأمة في المسألة، أما إذا لم يجد نصاً فيعمل بالقياس والإستحسان والعرف وسد الذرائع والمصالح المرسلة ضمن شروط.
وقد ظهر مذهبه الفقهي رضي الله عنه جلياً في كتابين أساسين له، هما الأشهر والأعظم باحتوائهما على الفقه المالكي وهما كتاب الموطأ الذي يعد من أقدم كتب السنة تأليفاً، إضافة إلى كتاب المدونة الكبرى، التي ذكر فيها كل الأحكام والقضايا الفقهية التي عرضت له، وجعل فيها أبواب الفقه مرتبة منها أبواب الطهارة، والصلاة، والحج، والصوم، وغيرها. أما الإمام مالك رضي الله عنه فقد كان متواضعاً، لا يجبر أحد على السير في منهجه، أو اتباع مذهبه، بل إن الخليفة هارون الرشيد كان قد فرض المذهب المالكي على الدولة العباسية، إلا أن مالك لم يرتضي ذلك، معتبراً أن هذه شدة وغلظة، والله سبحانه يريد التيسير لعباده.
وإن أقرب المذاهب لمذهب الإمام مالك هو مذهب الإمام أبو حنيفة، لأن كلاهما -مالك وأبو حنيفة- من أهل الرأي، ومن رواد مدرسة الرأي؛ كما أن منهج الإمام أبي حنيفة كمنهج مالك في المسألة الشرعية.
انتشر مذهب الإمام مالك بشكل واسع في البلاد والأفق، فقد أمر حاكم الأندلس رعيته السير على المذهب المالكي، لأنه ارتضاه لما فيه من سهولة ويسر في بعض الأحكام؛ كما انتشر المذهب المالكي في تونس، حيث اصطدم بالمذهب الحنفي في مدينة القيروان، فقسمت البلاد إلى مذهبين منها المالكي والآخر الحنفي.
والذي يجب معرفته لكل قارئ أن الإمام مالك لم يؤسس لنفسه مذهباً له قواعد وأركان حتى ينشرها في البلاد، وإنما رحمه الله كان يفتي للناس ويبين لهم ما أشكل عليهم من مسائل، وبالتالي نقل عنه تلاميذه كل تلك القضايا والمسائل ودونوها في الكتاب الأضخم الذي أرسى قواعد المذهب المالكي، وهو المدونة الكبرى.
أما عن أسباب انتشار المذهب المالكي فيرجع إلى أن قوافل المسلمين التي فتحت المغرب وبلاد الأندلس من أهل المدينة والحجاز، حيث كان الفاتحين يعملون بمذهب الإمام مالك لأنه كان آنذاك إمام أهل الحجاز ومذهبه سائد فيهم، فلما فتحوا البلاد نشروا مذهبه، وأعلنوه بين الدول والبلدان؛ كذلك أن بلاد الأندلس أرادت أن تثبت استقلالها عن الدولة العباسية والخلافة العباسية، وقد كانت الأخيرة تسير على المنهج الحنفي، فكان لا بد من وجود مذهب آخر لتثبت استقلالها. وأخيرا لقد كان الذهب المالكي سائداً في القضاء، في بلاد المغرب والأندلس لأن قضاتهم تعلموا في المدينة المنورة، حيث وجود المذهب المالكي.