محتويات
التواضع خلق إنساني نبيل
كثير من الناس يصلون إلى مراتب عالية في المجتمع، ويحققون الكثير من النجاحات والتميز في كثير من مجالات الحياة سواء كانت تلك النجاحات في مجال العمل أو مجال العلم أو مجال التواصل والعلاقات الاجتماعية، وهذه النجاحات وذلك التميز هو سلاح ذو حدين، إما أن يوجهه الإنسان الناجح لما فيه خير له فيتواضع ويعلم أن ما وصل إليه كان بفضل الله عليه وتوفيقه، أو أن يتكبر ويصير مغرورًا متعاليًا على الناس، وعندها سيحتقره المجتمع، ولا يكترث لنجاحه لأن غروره وتكبره غطى على النجاح والتميز الذي وصل إليه، إضافة إلى أن هذا التميز لن يدوم له بسبب تكبره واستعلائه.
إن التواضع خُلق إنساني نبيل كريم، وذلك لأن الإنسان المتواضع هو ذلك الذي يرى كل ما يقوم به وينجح به بسيطًا ويمكن أن يكون هناك من هو أفضل منه وأعلى مرتبة منه، وبذلك سيكون له مكانة فاضلة عند الناس المحيطين به، وسيعلو شأنه بينهم بسبب أخلاقه الفاضلة وتواضعه النبيل، إضافة إلى أن هذا التواضع الصادق سيعود بالأثر الإيجابي على الإنسان نفسه، إذ إنه سيظل في سعي دؤوب لتحقيق المزيد من النجاحات، ويعمل بجد ليصل مراتب أعلى، وما ذلك إلا لأنه لا يرى النجاح الذي وصل إليه أنه القمة وأنه الوحيد والأفضل، إنما دائمًا يشعر بالتقصير، وأنه يستطيع تقديم المزيد، فهذا أثر جميل للتواضع يعود على الإنسان المتواضع وعلى المجتمع المحيط أيضًا.
الإنسان المتواضع هو القدوة الحسنة والمثل الأعلى لكل الناس من حوله، هو الذي سيغير مفهوم النجاح والتميز لدى كثير من الناس، سيعطي مفهومًا جديدًا للنجاح والتميز سواء كان تميزًا بالمال أو الجاه أو العلم أو المكانة، سيزيد النجاح نجاحًا والتألق تألقًا، وسيجعل التواضع هو واسطة العقل في كل مرتبة يرتقي إليها في حياته، عندها سيتعلم الناس التواضع الصحيح النابع من القلب الصادق بكل تفاصيله، لا ذلك التواضع الخاص بالمظاهر أمام الناس والأضواء، وجوهره خلاف ذلك، فطوبى لمن كان تواضعه خلقًا نبيلًا صادقًا.
التواضع سمة العقلاء
يظن الكثير من الناس أن الإنسان عندما يتواضع بأخلاقه فإنه سيكون ضعيف الشخصية أمام الآخرين، وسيكون معرضًا لانتهاك حقوقه والتطاول عليه من كل الناس، وأنه لن يكون قادرًا على المطالبة بحقوقه أو الدفاع عن نفسه في أي موقف من المواقف، وأنه بالعكس إذا كان مغرورًا متكبرًا متعجرفًا سيخافه الناس ويهابونه ويحذرونه قبل التكلم معه، إلا أن الحقيقة الجوهرية خلاف ذلك، فالتواضع هو سمة العقلاء ، الذين يتصفون بالحكمة ورجاحة العقل في تصرفاتهم، فالإنسان المتواضع يكثر أحبته ويقل أعداؤه، وتكون حياته مملوءة بالأشخاص الطيبين الذين يشبهونه ويحبونه ويدافعون عنه ويخافون على مصلحته.
ومن غير الممكن أن يؤذي الناس إنسانًا لم يؤذهم أو يتوجه إليهم بإلإساءة من خلال كلمة أو نظرة أو تصرف، حتى وإن قرر أحد المبغضين الحاسدين أذية الإنسان المتواضع وإلحاق الضرر به، فإن الله تعالى قادر على أخذ حقه وحمايته، وما ذلك إلا لأن الأخلاق هي أساس في الدين الإسلامي، ولن يتخلى الله عن إنسان التزم بأوامر الدين الإسلامي وأخلاقه، ولذلك فمن الحكمة والمنطق والعقلانية أن يكون الإنسان محبًا للتواضع ملتزمًا به قادرًا على تطبيقه في حياته بكل تفاصيلها.
إضافة إلى أن الإنسان المتواضع لا بد أنه يفكر بعقله تفكيرًا منطقيًا يجعله قادرًا على التمييز بين التواضع والذل والإهانة أو إظهار النفس بضعف وانكسار، فالإنسان المتواضع لا يكون ذليلًا ولا منكسرًا، بل على العكس هو شخص قوي واثق بنفسه وبكلمته وبتصرفاته، وما ذلك إلا لأنه أحسن فهم التواضع وتمثله في نفسه، ولم يقترب من ذلك التواضع الذي يلبسه ثوب الذل والانكسار أمام الناس، فهذا ليس من التواضع في شيء إنما هو كذب وتدليس ومراءاة أمام الناس والمجتمع، وليس صعبًا أن يُكشف صاحبه وتُعرف نواياه وراء هذا الزيف الكاذب للتواضع.
يمكن القول: إن العلاقة بين التواضع والعقل علاقة متبادلة فلا بد للعاقل أن يكون متواضعًا، ولا بد للمتواضع أن يكون عاقلًا، فالعاقل يعرف معرفة ثابتة يقينية أن التواضع هو الخُلق الصحيح الذي يوصله إلى النهايات السعيدة، والمتواضع من جهة أخرى لم يتحلّ بهذا الخلق إلا لسعة افقه وحكمته في فهم الحياة والغاية منها.
التواضع خلق الأنبياء والصالحين
مما يزيد من مكانة التواضع ويرفع قيمته ويعلي شأنه وشأن المتواضع بين الناس أن التواضع هو خلق الأنبياء أجمعين، وسمة من سمات الصالحين الذين مروا عبر التاريخ، ولولا هذه الأخلاق الكريمة التي تحلوا بها لما التفّت حولهم الأمم واقتنعت بكلامهم، وصدقتهم وآمنت بهم وبرسالتهم، ومن المهم للبشر عمومًا والمسلمين خصوصًا أن يقتدوا بالأثر الصالح الذي نهض بالأمم قبلًا، حتى تعود هذه المجتمعات لنهضتها وعزتها وقوتها، فالأخلاق هي التي ترقى بالأمم وترفع شأنها بين الأمم الأخرى، وتزيد من منعتها وقوتها وشجاعتها أمام الأعداء، ولوعاد الإنسان بالتاريخ إلى الوراء لرأى كيف كانت الأخلاق ومنها التواضع هي أساس التعامل بين الجميع مهما علا شأنهم وكبرت مكانتهم.
حتى إن الأنبياء لم يتركوا التواضع في تعاملهم مع أعدائهم إنما كانوا خير مثال لأخلاق الدين الإسلامي، فهم لم ينادوا بها ويعطوا المواعظ عنها، إنما تحلوا بها فكانت أخلاقهم خير دليل للناس كي يلتزموا بها ويعرفوا قيمتها وأهميتها، فمن رأى تواضع الأنبياء أو سمع عنه يذوب خجلًا من نفسه ومن طريقة تفكيره وتعامله مع الناس، بل اين هو من الأنبياء .
ولذلك من الأهمية بمكان أن يعود الإنسان إلى قراءة سير السلف الصالح، ومعرفة صفاتهم وأخلاقهم كي يبقي نفسه دائمًا في تجديد ومراقبة ومحاسبة لأخلاقها وتصرفاتها، ويبعد عن نفسه كل وسواس يزين له التكبر والغرور والاستعلاء على الناس المحيطين به، وهذه المحاسبة الداخلية هي أقوى أنواع المحاسبة وأكثرها جهادًا للنفس، فمن تمكن منها فهو القوي العاقل النبيل الحكيم، وكل ذلك يمكن إذا وضع الإنسان رضا الله تعالى نصب عينيه، عندها فقط لن يكترث لا بوساوس الشيطان ولا بأهواء نفسه ولا بأي شيء، بل سيلتزم بكل ما أمره به الله كي يكون في منزلة رفيعة عند الله تعالى، وسترتفع منزلته في السماء، كلما ازداد تواضعًا في الأرض.
التواضع تهذيب للنفس والمجتمع
لا يقتصر دور التواضع الذي يتسم به الإنسان عند كونه خلقًا نبيلًا، أو أنه يجعل من المتواضع قدوة للآخرين، أو حتى أنه يرفع مكانة المتواضع عند الله تعالى، بل إنه يتعدى ذلك ليكون معلّمًا للنفس، ضابطًا لها عن الوقوع في المزالق، وذلك يكون لأن الإنسان المتواضع يكون قد عقد النية الصادقة على الابتعاد عن كل ما يؤذي الناس سواء بكلمة أو نظرة أو تصرف، فكلما وسوست له نفسه أن يقوم بفعل يرضي الغرور ويعززه يعود ليتذكر نيته وتواضعه، فيبتعد عن الإساءة ويخالف رغبات نفسه الأمارة بالسوء، وبذلك يقوي من عزيمته وجهاده لنفسه، ويرضي ربه ودينه.
من جهة أخرى سيكون التواضع خير معلم للمجتمع بأسره، فعندما يرى الناس الإنسان المتواضع، وكيف تعلو مكانته في قلوب الناس، وكيف يزيده الله من فضله ونعمه، لا بد أن يعرفوا أثر هذا التواضع ودوره وأهميته، إضافة لذلك أنهم سيشعرون انهم مقصرون في هذا الجانب الأخلاقي، ويعملون بكل جهدهم كي يتحلوا بهذا الخلق، وكلما شاع التواضع في المجتمع، خلا المجتمع من الفساد والتدهور والتراجع والانحدار، ويصير المجتمع فاضلًا بأفراده وأخلاقهم وتصرفاتهم السلوكية والأخلاقية، ويقوى عوده ويعلو شأنه بين المجتمعات الأخرى.
ولعل التواضع يقوى كلما غُرست بذوره في قلوب الأبناء منذ الصغر، وكلما عرفوا قيمته ومكانته عند الله تعالى، وذلك يكون من خلال سرد القصص، وإعطاء الأمثلة، وأن يكون الأهل قدوة في هذا التواضع، قادرين على إيصال مفهومه بأبهى صورة وأحلى شكل، ومن خلال ذلك سترقى الأمم والمجتمعات بشباب يافع ناضج خلقه التواضع وصفته الحكمة والعقل، والتعاون يزينه في كل تفاصيل حياته، فلا يرى واحدهم في المجتمع أنه أعلى من غيره أو أرقى درجة وأنه سيأمر ويطلب وينهى وغيره سيطيعه، بل سيكون يدًا بيد مع كل من حوله ليحافظوا على بنيان المجتمع بنيانًا مرصوصًا قويًا متينًا.
بالتواضع يرقى الإنسان، وبه تعلو الأمم وترتفع، فيكون العالم متواضعًا في علمه، والغني المترف متواضعًا في ملكه وأمواله، والتاجر متواضع بذكائه التجاري، وكل واحد منهم يجود على الآخر بما فضّله الله به عليهم فيعلمهم ويفيدوا منه ليكونوا كلهم في درجة واحدة ومستوى واحد، وعندها تتحقق العدالة الإنسانية وتعم الخيرات في الحياة.