محتويات
'); }
التبني ورعاية اليتيم والفرق بينهما
يُفرّق بين تبنّي اليتيم وكفالته من عدّة حيثيّات؛ حيث يختلف مفهوم التبنّي عن رعاية اليتيم وكفالته، وكذلك فإن حكم الشرع في التبنّي مغايرٌ تماماً عن حكم كفالة اليتيم ورعايته، وفيما يأتي في المقال بيانٌ وتفصيل لمفهومهما وحكمهما، وما يترتّب على كلّ منهما.
رعاية اليتيم
اليتيم هو كل طفلٍ مات عنه أبوه وهو صغيرٌ قبل سِنّ البلوغ، وقد وصّى الله -تعالى- عباده وحثهم على العناية باليتيم والإحسان إليه في كثيرٍ من مواضع القرآن الكريم، كقول الله -تعالى-: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ)،[١] وقوله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)،[٢] والعناية باليتيم سببٌ في ذهاب قسوة القلب وإبدالها باللّين واللّطف؛ فقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه-: (أنَّ رجلًا شَكَى إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ قَسوةَ قلبِهِ، فقالَ: أطعِمِ المِسكينَ وامسَحْ رأسَ اليتيمِ).[٣][٤]
'); }
وقد حرص ديننا الحنيف على تسليط الضوء على ضرورة الاهتمام باليتيم، وذلك بسدّ حاجاته المادية والمعنوية، والعطف عليه، والتقرّب منه، ودمجه وضمّه في المجتمع، لما له من أثرٍ كبيرٍ على مجتمعه؛ فيغدو صالحاً ويسعى لأمور الخير والرّشاد. وقد حرص الرسول -عليه الصلاة والسلام- بتوفير وحفظ حقّ كلّ من لا يقوى على سداد حاجات نفسه كاليتيم؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبيّ -عليه الصلاة والسلام- قال: (مَن تَرَكَ مالًا فَلِوَرَثَتِهِ، ومَن تَرَكَ كَلًّا فَإِلَيْنا)،[٥] وإن تُرك اليتيم ولم يُكترث لأمره، ولم يَحظَ بالمحبة والحنان والعطف من قِبل غيره؛ فسيواجه صعوبةً في اندماجه مع الناس، وسيمتلئ قلبه بالعداوة والبغضاء، وسينعكس هذا على سلوكه، ممّا سيؤثّر سلباً على مجتمعه. ولكلّ من يهتم بأمر اليتيم ويحرص على كفالته أجرٌ عظيم من الله -تعالى-.[٦]
التبني
التبنّي هو اتّخاذ الرّجل طفلاً غريباً كابنٍ له ونَسْب اسم الطفل إليه، ويكون له الحق في الحصول على الميراث كأبنائه الذين من صلبه، وقد كان العرب قديماً يقولون: ادّعى فلاناً؛ أي تبنّاه، ولكن الإسلام رفض التبني، قال -تعالى-: (وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ)،[٧][٨] والفرق شاسعٌ بين التبنّي وكفالة اليتيم؛ فالتبنّي فيه تحريمٌ لما أحلّ الله -تعالى- وتحليلٌ لما حرّم، وقد تدخل مشاعر الشحناء والبغضاء بين المُتَبنَّى وأولاد الرجل المُتبنِّي، بالإضافة إلى أنّ في التبنّي تضييعاً للأنساب، وقد حذّر النبي -عليه الصلاة والسلام- أُمّته من التبنّي لِما له من العقاب الشديد عند الله -تعالى-، بدليل قوله -صلى الله عليه وسلم-: (ليسَ مِن رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أبِيهِ -وهو يَعْلَمُهُ- إلَّا كَفَرَ، ومَنِ ادَّعَى قَوْمًا ليسَ له فيهم، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)،[٩] أمّا كفالة اليتيم فهي من الأفعال الحسنة، بل وقد شجّع الإسلام عليها؛ فهي إحسانٌ ورعايةٌ لليتيم، ومعاملته معاملةً رحيمةً دون اتّخاذه ولداً ولا إدخاله لعائلةٍ هو ليس منها، ويحظى كافل اليتيم بالأجر الكبير من الله -تعالى- في الدنيا والآخرة.[١٠]
وكان الرسول -عليه الصلاة والسلام- قد تبنّى زيد بن حارثة قبل بعثته، وعندما بحث أبوه وعمّه عنه وجداه عند النبي محمد -عليه الصلاة والسلام-، وقد خيّره النبي بين البقاء عنده أو الذهاب مع أبيه؛ لكنّ زيداً فضّل محمداً على أبيه؛ فتبنّاه رسول الله وكان يُسّميه زيداً بن محمّد، وبعدما بعثه الله -تعالى- نبيّاً أبطل هذه العادة؛ فنزل قوله -تعالى-: (مَّا جَعَلَ اللَّـهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّـهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ)،[٧][١١] والتبنّي اعتداءٌ على النسب الأصليّ للطفل؛ لأنّ الوالد الحقيقيّ أحق بنسب ابنه إليه، وقد أمر الله -تعالى- عباده أن يَنسبوا الأبناء لآبائهم الأصليّين تحقيقاً للعدل، قال -تعالى-: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّـهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَـكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّـهُ غَفُورًا رَّحِيمًا).[١٢][١٣]
حكم التبني
لمّا بعث الله -تعالى- محمّداً نبياً، كان هناك الكثير من العادات الجاهلية التي أُبطلت وحُرّمت، ومنها عادة التبني؛ إذ أنزل الله -تعالى- عدّة آياتٍ لإلغاء هذه العادة، والتي تُبيّن عدم جواز نسب أيّ طفل لغير أبيه الحقيقيّ،[١٤] قال الله -تعالى-: (مَّا جَعَلَ اللَّـهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّـهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ* ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّـهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَـكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّـهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)،[١٥] ولا يجوز تبنّي أي طفلٍ حتى لو كانت النيّة من تبنّيه الحرص على اعتناقه الإسلام، ولكن تجوز كفالته بالمال والعطف عليه ورعايته،[١٦] وهناك أدلة من السنة النبوية تُؤكد على تحريم التبنّي؛ فقد أخرج الإمام البُخاري -رحمه الله- في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة -رضي الله عنهما- أنّ النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (مَنِ ادَّعَى إلى غيرِ أبِيهِ، وهو يَعْلَمُ فَالْجَنَّةُ عليه حَرَامٌ).[١٧][١٨]
ولم يكن تحريم التبنّي وإبطاله إلا لحكمةٍ أرادها الله -تعالى-، وتعود هذه الحكمة على العباد بالصلاح والخير؛ فبالتبنّي تحدث بعض التجاوزات والمخالفات الشرعية؛ كإلحاق المُتبنّى بالميراث رغم عدم استحقاقه له، أو انكشاف عورات النساء على غير محارمها، وإن كان المُتبنّى فتاة قد يحصل انتهاك لخصوصيّتها أو تقييد لحريّتها من قِبل رجالٍ أجانب تُشاركهم المسكن والأبوين.[١٩]
فضل كفالة الأيتام
كفالة اليتيم سببٌ في دخول الجنة، وهي المُبتغى الأسمى الذي يسعى له المسلمون؛ إذ بشّر النبي -صلى الله عليه وسلم- كافل اليتيم بالفوز بمنزلةٍ عظيمةٍ في الجنة، وبعُلو شأنه بالقرب منه -عليه الصلاة السلام-، قال -صلى الله عليه وسلم-: (كافِلُ اليَتِيمِ له أوْ لِغَيْرِهِ، أنا وهو كَهاتَيْنِ في الجَنَّةِ، وأَشارَ مالِكٌ بالسَّبَّابَةِ والْوُسْطَى)،[٢٠] ولكافل اليتيم ثوابٌ وأجرٌ عظيمٌ كأجرِ المجاهد في سبيل الله -تعالى-، حيث روى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -عليه الصلاة والسلام-: (السَّاعِي علَى الأرْمَلَةِ والمِسْكِينِ كالْمُجاهِدِ في سَبيلِ اللَّهِ)،[٢١] والمسكين كاليتيم.[٢٢]
والإحسان لليتيم من أخلاق الأنبياء والصالحين؛ إذ حرص العبد الصالح الخضر ونبي الله موسى -عليه السلام- على حفظ حقّ الأيتام بإصلاح الجدار لهم، وقد بيّن ذلك الله -تعالى- في قوله: (وَأَمَّا الجِدارُ فَكانَ لِغُلامَينِ يَتيمَينِ فِي المَدينَةِ وَكانَ تَحتَهُ كَنزٌ لَهُما وَكانَ أَبوهُما صالِحًا فَأَرادَ رَبُّكَ أَن يَبلُغا أَشُدَّهُما وَيَستَخرِجا كَنزَهُما رَحمَةً مِن رَبِّكَ وَما فَعَلتُهُ عَن أَمري ذلِكَ تَأويلُ ما لَم تَسطِع عَلَيهِ صَبرًا)،[٢٣] وقد مدح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووصف البيت الذي يُحسن فيه لليتيم بخير البيوت، والبيت الذي يُساء فيه لليتيم بِشرّ البيوت، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: (خيرُ بيتٍ في المسلمينَ بيتٌ فيهِ يتيمٌ يُحسَنُ إليهِ وشرُّ بيتٍ في المسلمينَ بيتٌ فيهِ يتيمٌ يُساءُ إليهِ).[٢٤][٢٥]
المراجع
- ↑ سورة الضحى، آية: 9.
- ↑ سورة البقرة، آية: 220.
- ↑ رواه ابن حجر العسقلاني، في فتح الباري لابن حجر، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم: 11/155، إسناده حسن.
- ↑ عبد العزيز السلمان (1997م)، مختصر الأسئلة والأجوبة الأصولية على العقيدة الواسطية (الطبعة الثانية عشر)، صفحة 155. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم: 2398، صحيح.
- ↑ محمد أبو زهرة، زهرة التفاسير، مصر: دار الفكر العربي، صفحة 522، جزء 1. بتصرّف.
- ^ أ ب سورة الأحزاب، آية: 4.
- ↑ مجموعة من المؤلفين (1404-1427هـ)، الموسوعة الفقهية الكويتية (الطبعة الثانية)، الكويت: دارالسلاسل، صفحة 120، جزء 10. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي ذر الغفاري، الصفحة أو الرقم: 3508، صحيح.
- ↑ محمد المنجد، موقع الإسلام سؤال وجواب، صفحة 659، جزء 7. بتصرّف.
- ↑ محمد الكتاني، تفسير القرآن الكريم، صفحة 6، جزء 192. بتصرّف.
- ↑ سورة الأحزاب، آية: 5.
- ↑ محمد أبو زهرة (1961م)، شريعة القرآن من دلائل إعجازه، مصر – القاهرة: دار العروبة، صفحة 24. بتصرّف.
- ↑ أحمد حطيبة، تفسير الشيخ أحمد حطيبة، صفحة 1، جزء 254. بتصرّف.
- ↑ سورة الأحزاب، آية: 4-5.
- ↑ مجموعة من المؤلفين، فتاوى الشبكة الإسلامية، صفحة 14442، جزء 13. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة، الصفحة أو الرقم: 4326، صحيح.
- ↑ عَبد الله الطيّار، عبد الله المطلق، محمَّد الموسَى (2011م)، الفِقهُ الميَسَّر (الطبعة الأولى)، المملكة العربية السعودية – الرياض: مَدَارُ الوَطن للنَّشر، صفحة 156، جزء 5. بتصرّف.
- ↑ مجموعة من المؤلفين، فتاوى الشبكة الإسلامية، صفحة 14420، جزء 13. بتصرّف.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم: 2983، صحيح.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم: 5353، صحيح.
- ↑ محمد المنجد، دروس للشيخ محمد المنجد، صفحة 18، جزء 255. بتصرّف.
- ↑ سورة الكهف، آية: 82.
- ↑ رواه ابن حجر العسقلاني، في تخريج مشكاة المصابيح، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم: 4/426، حسن.
- ↑ صالح المغامسي، دروس للشيخ صالح المغامسي، صفحة 25، جزء 13. بتصرّف.