محتويات
'); }
ما هي آخر غزوة غزاها الرسول
لقد قام الرّسول – صلّى الله عليه وسلّم – بالعديد من الغزوات خلال حياته، وذلك لأجل تحقيق العديد من الأهداف، مثل الدّفاع عن شوكة المسلمين ضدّ كل من حاول التّصدي للإسلام في بداية نشأته، وتعتبر غزوة تبوك هي آخر غزوة قام بها الرّسول – صلّى الله عليه وسلّم – في حياته، وسنورد ذكرها في هذا المقال بشيء من التّفصيل.
غزوة تبوك
تعدّ غزوة تبوك هي آخر غزوة غزاها النّبي – صلّى الله عليه وسلّم – بنفسه، وقد كانت وقت رجوعه من العمرة بعد حصار الطائف، وذلك في آخر شهر ذي القعدة، عام ثمانية للهجرة، فأقام في المدينة شهر ذي الحجّة، والمحرّم، وصفرا، وجمادى الآخرة، فلمّا كان شهر رجب من عام تسعة للهجرة، أذن الرّسول – صلّى الله عليه وسلّم – للمسلمين بغزو الرّوم.
'); }
وكان عام تسعةٍ للهجرة عام قحط، وجدب، وحرّ شديد، حيث طاب حينها أوّل الثّمر، وقد كان النّبي – صلّى الله عليه وسلّم – في كلّ غزوة لا يُفصح عن اتجاه الجيش، إلا في غزوة تبوك فإنّه قد تكلم في أمرها كلاماً تفصيليّاً، وبيّن اتجاه مسير الجيش، وذلك لصعوبة الأحوال فيها، وبُعد الشقّة، والقوة الشديدة لعدوّهم الشّرس.
وكان الجدّ بن قيس أخا بني سلمة قد استأذن رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – في التّأخر عن الجيش، وقد قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم:” قد علمت الأنصار أنّي إذا رأيت النّساء لم أصبر حتى أفتتن، ولكن أعينك بمالي “، فأذن له النّبي – صلّى الله عليه وسلّم – ثمّ أعرض عنه، وقد نزلت فيه الآية من قوله تعالى:” ومِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا “، التوبة/49. (1)
سبب الغزوة
وأمّا سبب هذه الغزوة كما قال ابن سعد في طبقاته:” أنّه بلغ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – أنّ الرّوم قد جمعت جموعاً كثيرةً بالشّام، وأنّ هرقل قد رزق أصحابه لسنة، وأجلب معهم لخماً، وجذاماً، وعاملةً، وغسّاناً، وغيرهم من متنصّرة العرب، وقدّموا مقدماتهم إلى البلقاء، فندب رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – النّاس إلى الخروج، وأعلمهم بالمكان الذي يقصده؛ ليتأهّبوا له “. (2)
بعد أن استقرّ الوضع الداخليّ في مكّة، توجّهت أنظار النّبي – صلّى الله عليه وسلّم – إلى الخارج، وذلك لإكمال مهمّة الدّعوة والبلاغ، وخاصّةً أنّ الأنباء كانت قد وصلت إليه أنّ الرّوم قد بدأوا بحشد قوّاتهم لغزوِ المسلمين، فرغب النّبي – صلّى الله عليه وسلّم – في أن يبادرهم بالخروج إليهم، وذلك في غزوة ذكرها التّاريخ باسم ” غزوة تبوك “. (3)
سبب التسمية
سميت غزوة تبوك بهذا الاسم بسبب عين تبوك، والتي مرّ المسلمون بها خلال طريقهم إلى ملاقاة الرّوم، وقد سمّيت هذه الغزوة أيضاً بغزوة العسرة، وذلك لأنّه قد اجتمع فيها مظاهر كثيرة من العسرة والشّد، حيث كان الجوّ شديد الحرارة، وشحّ الماء مع المسلمين، وكان المكان الذي يقصدونه بعيداً، وفوق هذا كان المسلمون في حالة شديدة من ضيق الحال والفقر، وقد ذُكر ذلك في القرآن الكريم في قوله تعالى:” لَّقَد تَّابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ “، التوبة/117. (3)
أحداث الغزوة
ولّى النّبي – صلّى الله عليه وسلّم – على المدينة محمّد بن مسلمة، واستخلف على أهله – صلّى الله عليه وسلّم – علياً بن أبي طالب، وكان عدد المسلمين الذين اجتمعوا ثلاثون ألفاً، وقد تخلف الكثير من المنافقين، ومنهم عبد الله بن أبي، وقالوا:” كيف يغزو محمّد بني الأصفر مع جهد الحال، والحرّ، والبلد الشطون البعيد “.
وقد جاء الكثير من المنافقين ليستأذنوا رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – في البقاء، فأذن لهم صلّى الله عليه وسلّم، وقد استأذنه أيضاً الضّعفاء فأذن لهم، وكذلك أذن للمقلّين، إلا أنّ الله سبحانه وتعالى عاتبه على ذلك، بقوله تعالى:” عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ “، التوبة/43، ثمّ قال سبحانه وتعالى في حقّهم:” إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ “، التوبة/45، ثمّ دحض الله عزّ وجلّ أعذارهم الواهية، وفضح كذبهم ونفاقهم، وذلك في قوله تعالى:” وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ “، التوبة/46.
ثمّ سار النّبي – صلّى الله عليه وسلّم – ومن معه من المسلمين، وكان هناك نفر من المسلمين ممّن تأخروا عن النّبي – صلّى الله عليه وسلّم – ولكنّ الله عزّ وجلّ لم يقبل أعذارهم، ودفع حجّتهم، لأنّهم كانوا يعتذرون بأمر باطل.
ولمّا عطش النّاس وفاض بهم الحال، دعا النّبي – صلّى الله عليه وسلّم – لهم بالرّي، فأمطرت السّماء ورووا جميعاً، وقد ذُكر في هذه الغزوة أنّ النّبي – صلّى الله عليه وسلّم – قد رأى أبا ذر الغفاري يتبع أثر الجيش، ويقتصّه، وهو يريد أن يلحق به، فقال صلّى الله عليه وسلّم:” يرحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده “.
وقد قام النّبي – صلّى الله عليه وسلّم – بمصالحة يحنة بن رؤبة صاحب أيلة على الجزية، وقام بإرسال خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك الكندي – صاحب دومة – والذي اقتنصه وأرسله إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعفا عنه النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وردّه، وصالحه على الجزية.
وقد جلس النّبي – صلّى الله عليه وسلّم – في تبوك عشرين ليلةً، ولم يجاوز ذلك، ثمّ انصرف قافلاً إلى المدينة، وفي عودته – صلّى الله عليه وسلّم – أمر أن يهدم مسجد الضّرار، ثمّ أمر مالك بن الدّخشم أخا بني سالم، ومعن بن عدي أو أخاه عاصم بن عدي أخا بني العجلان بأن يهدموا المسجد ويحرقوه، فدخل مالك بن الدّخشم منزله فأخرج منه شعلة نار، ثمّ أحرقا المسجد وهدماه، وكانت عودة النّبي – صلّى الله عليه وسلّم – من هذه الغزوة في شهر رمضان من العام التاسع للهجرة. (3)
موقف المعذّرين
والمعذّرون هم من نزل فيهم قول الله سبحانه وتعالى:” وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ “، التوبة/92، ومن هنا جاءت تسميتهم بالباكين والبكّائين.
وقد قال فيهم رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – عند رجوعه من تبوك:” إنَّ بالمدينةِ أقوامًا، ما سِرتُم مسيرًا، ولا قطعتُم واديًا إلا كانوا معكم. قالوا: يا رسولَ اللهِ، وهم بالمدينةِ؟ قال: وهم بالمدينةِ، حبسهُمُ العذرُ “، رواه البخاري. (2)
الثلاثة المتخلفون
كان الذين قعدوا عن الخروج مع النّبي – صلّى الله عليه وسلّم – في هذه الغزوة ما بين المؤمنين الرّاسخ إيمانهم في قلوبهم، وبين البكّائين لحرمانهم وعدم قدرتهم على الخروج، وبين المنافقين الذين التمسوا كلّ الأعذار ليقعدوا عن الخروج، ومنافقين آخرين خرجوا مع النّبي – صلّى الله عليه وسلّم – ثمّ نكصوا على أعقابهم، وهناك أيضاً فريق من المسلمين، لكن أبطأت بهم النّية عن اللحاق بالنّبي – صلّى الله عليه وسلّم – حتى تخلفوا عنه، ولكن لم يكن هناك أيّ شكّ أو نفاق في قلوبهم، وهؤلاء هم: مرارة بن الرّبيع، وهلال بن أميّة، وكعب بن مالك.
وأمّا الحديث عن هؤلاء الرّجال في سبب تخلّفهم عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ومعاملتهم الله سبحانه وتعالى بالصّدق، والرّجوع إليه، والتّوبة، فقد ورد ذكر ذلك في صحيح الإمام البخاريّ، وهو ما رواه من طريق عبد الرّحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك:” أنّ عبد الله بن كعب بن مالك، وكان قائد كعب من بنيه حين عمي، قال: سمعت كعب بن مالك يحدّث حين تخلّف عن قصة تبوك، قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – في غزوة غزاها إلّا في غزوة تبوك، غير أنّي كنت تخلّفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحدا تخلّف عنها، إنّما خرج رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – يريد عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أنّ لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في النّاس منها.
كان من خبري: أنّي لم أكن قطّ أقوى ولا أيسر حين تخلّفت عنه في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قطّ، حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – يريد غزوة إلّا ورّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، غزاها رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – في حرّ شديد، واستقبل سفراً بعيداً، ومفازاً، وعدوّاً كثيراً، فجلّى للمسلمين أمرهم؛ ليتأهّبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ – يريد الدّيوان – قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيّب إلا ظنّ أنّه سيخفي أمره، ما لم ينزل فيه وحي من الله عزّ وجلّ.
وغزا رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – تلك الغزوة حين طابت الثّمار والظلال، وتجهّز رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهّز معهم، فأرجع ولم أقض شيئاً، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتدّ بالنّاس الجدّ، فأصبح رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – والمسلمون معه، ولم أقضِ من جهازي شيئاً، فقلت: أتجهّز بعده بيوم أو يومين ثمّ ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهّز، فرجعت ولم أقضِ شيئا، ثمّ غدوت، ثمّ رجعت ولم أقضِ شيئاً، فلم يزل بي حتّى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم، وليتني فعلت، فلم يقدّر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في النّاس بعد خروج رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – فطفت فيهم، أحزنني أنّي لا أرى إلّا رجلا مغموصاً عليه النّفاق، أو رجلاً ممّن عذر الله من الضّعفاء.
ولم يذكرني رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - حتّى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب؟ فقال رجل من بني سلمة، وهو عبد الله بن أنيس السّلمي: يا رسول الله؛ حبسه برداه ونظره في عطفيه، فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله؛ ما علمنا عليه إلّا خيراً، فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال كعب بن مالك: فلمّا بلغني أنّه توجه قافلاً، حضرني همّي، فطفقت أتذكّر الكذب، وأقول: بماذا أخرج من سخطه غداً؟ واستعنت على ذلك بكلّ ذي رأي من أهلي، فلمّا قيل: إنّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – قد أظلّ قادماً، زاح عنّي الباطل، وعرفت أنّي لن أخرج منه أبداً بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – قادماً، وكان إذا قدم من السّفر بدأ بالمسجد، فيركع فيه ركعتين، ثمّ جلس للناس، فلمّا فعل ذلك جاءه المخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه – صلوات الله وسلامه عليه – ويحلفون له، وكانوا بضعةً وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكّل سرائرهم إلى الله.
فجئته، فلمّا سلّمت عليه، تبسّم تبسّم المغضب، ثمّ قال: تعال، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ فقلت: بلى، إنّي والله لو جلست عند غيرك من أهل الدّنيا، لرأيت أنّي سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلاً، ولكنّي والله لقد علمت لئن حدّثتك اليوم حديث كذب ترضى به عنّي، ليوشكنّ الله أن يسخطك عليّ، ولئن حدّثتك حديث صدق تجد عليّ فيه، إنّي لأرجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قطّ أقوى ولا أيسر منّي حين تخلّفت عنك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أمّا هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك، فقمت.
وثار رجال من بني سلمة فأتبعوني، فقالوا لي: والله؛ ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – كما اعتذر المتخلفون؛ فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – لك، فوالله ما زالوا يؤنّبونني حتّى أردت أن أرجع فأكذب نفسي، ثمّ قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الرّبيع العمري، وهلال بن أميّة الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً، فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي.
ونهى رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – المسلمين عن كلامنا أيّها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا النّاس، وتغيّروا لنا، حتّى تنكرت في نفسي الأرض، فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلةً، فأمّا صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأمّا أنا فكنت أشبّ القوم وأجلدهم، وكنت أخرج فأشهد الصّلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق، ولا يكلّمني أحد، وآتي رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصّلاة، فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه بردّ السّلام عليّ أم لا؟ ثمّ أصلّي قريباً منه، فأسارقه النّظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إليّ، وإذ التفت نحوه أعرض عنّي.
حتى إذا طال عليّ ذلك من جفوة النّاس مشيت حتى تسوّرت جدار حائط أبي قتادة – وهو ابن عمّي وأحبّ النّاس إليّ – فسلّمت عليه، فوالله؛ ما ردّ عليّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك بالله: هل تعلمني أحبّ الله ورسوله؟ فسكت، فعدت له فنشدته فسكت، فعدت له فنشدته، فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي، وتولّيت حتى تسوّرت الجدار، قال: فبينما أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطيّ من أنباط أهل الشّام، ممّن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلّني على كعب بن مالك، فطفق النّاس يشيرون له، حتى إذا جاءني دفع إليّ كتاباً من ملك غسّان.
فإذا فيه: أمّا بعد: فإنّه قد بلغني أنّ صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت: لمّا قرأتها: وهذا أيضاً من البلاء، فتيمّمت بها التنّور، فسجرته بها، حتّى إذا مضت أربعون ليلةً من الخمسين، إذا رسول رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - يأتيني، فقال: إنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبيّ مثل ذلك.
فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتّى يقضي الله في هذا الأمر، قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أميّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله؛ إنّ هلال بن أميّة شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا، ولكن لا يقربك، قالت: إنّه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أميّة أن تخدمه، فقلت: والله؛ لا أستأذن فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وما يدريني ما يقول رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – لو استأذنته فيها وأنا رجل شاب؟
فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتّى كملت لنا خمسون ليلةً من حين نهى رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – عن كلامنا، فلمّا صلّيت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس على الحال التي ذكر الله، قد ضاقت عليّ نفسي، وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك؛ أبشر، قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء فرج، وآذن رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – بتوبة الله علينا، حين صلّى صلاة الفجر، فذهب النّاس يبشّروننا، وذهب قبل صاحبيّ مبشرون، وركض إليّ رجل فرساً، وسعى ساع من أسلم، فأوفى على ذروة الجبل، وكان الصّوت أسرع من الفرس.
فلمّا جاءني الذي سمعت صوته يبشّرني، نزعت له ثوبيّ فكسوته إيّاهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – فيتلقاني النّاس فوجاً فوجاً يهنّئونني بالتّوبة، يقولون: لتهنك توبة الله عليك، قال كعب: حتّى دخلت المسجد، فإذا رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – جالس وحوله النّاس، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتّى صافحني وهنّأني، والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة.
قال كعب: فلمّا سلمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – وهو يبرق وجهه من السّرور: أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك، قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: لا، بل من عند الله. وكان رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – إذا سرّ استنار وجهه كأنّه قطعة قمر، وكنّا نعرف ذلك منه، فلمّا جلست بين يديه، قلت: يا رسول الله: إنّ من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك، قلت: فإنّي أمسك سهمي الذي بخيبر، فقلت: يا رسول الله؛ إنّ الله إنّما نجّاني بالصّدق، وإنّ من توبتي أن لا أحدّث إلّا صدقاً ما بقيت، فوالله؛ ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – أحسن ممّا أبلاني، ما تعمّدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – إلى يومي هذا كذباً، وإنّي لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت.
وأنزل الله تعالى على رسول الله صلّى الله عليه وسلم:” لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ “، إلى قوله:” وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ “، فوالله ما أنعم الله عليّ من نعمة قطّ بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – ألّا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فإنّ الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شرّ ما قال لأحد، فقال تبارك وتعالى:” سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ “،إلى قوله:” فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ “.
قال كعب: وكنّا تخلّفنا أيّها الثّلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – حين حلفوا له، فبايعهم، واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – أمرنا حتّى قضى الله فيه، فبذلك قال الله:” وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا “، وليس الذي ذكر الله ممّا خلفنا عن الغزو، وإنّما هو تخليفه إيّانا، وإرجاؤه أمرنا عمّن حلف له، واعتذر إليه فقبل منه “. (2)
المراجع
(1) بتصرّف عن كتاب غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم/ السيد الجميلي/ دار ومكتبة الهلال- بيروت/ الجزء الأول.
(2) بتصرّف عن كتاب إنارة الدجى في مغازي خير الورى صلى الله عليه وآله وسلم/ حسن بن محمد المشاط المالكي/ دار المنهاج- جدة/ الطبعة الثانية.
(3) بتصرّف عن مقال غزوة تبوك….والمواجهة الأخيرة/ الدكتور / أكرم ضياء العمري/ 01/09/2003/ موقع المقالات/ إسلام ويب/ .islamweb.net