ما قبل البعثة
حَفِل المجتمع الجاهلي قبل بعثة النبي -صلّى الله عليه وسلّم- بكثيرٍ من الأحداث العظيمة، وزخرت تواريخ أيّامه بحوادث جليلةٍ، ضمّتها كتب التاريخ، وحدّثت عنها الآثار والروايات، ومن هذه الأحداث ما ارتبط بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرةٍ بالإسلام وبدء دعوته، ولعلّ من أبرز هذه الأحداث ما كان في عام الفيل، وما تخلّل هذا العام من حدثٍ جليلٍ، ممّا دفع إلى تسمية العام الذي حصل فيه هذا الحدث باسمه، وذكره في النصوص الشرعيّة قرآناً يُتلى، منذ نزول القرآن الكريم على النبي -صلّى الله عليه وسلّم- وحتى آخر يومٍ في هذه الحياة الدنيا، وقد سُمِّيت سورة من سور القرآن باسمه، فما هو عام الفيل، وما سبب تسميته بهذا الاسم؟
سبب تسمية عام الفيل بهذا الاسم
يعود السبب في تسمية عام الفيل بهذا الاسم إلى حادثةٍ جليلةٍ وقعت في مكانٍ جليلٍ وعظيم القدر عند الله -تعالى- وهو الكعبة المشرفة، وهي الحادثة المعروفة بحادثة أصحاب الفيل، وتفصيل هذه الحادثة أنّ أحد زعماء الحبشة ويُقال له أبرهة الأشرم، قد بنى في صنعاء كنيسةً عظيمة البناء وسمّاها القُلّيس؛ لغيظه من أنّ الكعبة المشرفة في مكة المكرمة وجهة الحُجّاج من العرب، فأراد أن يقصد الحجّاج كنيسته التي بناها، ويتركوا توجُّههم نحو مكة المكرمة وتعظيمهم لها، فما كان منه إلّا أنّ أعدّ العُدّة وجهز جيشاً تنقله الفِيلةُ، وخرج صوب مكة المكرمة قاصداً هدم الكعبة وتدميرها؛ لتنصرف أنظار الناس ويتّجه قصدهم إلى الكنيسة التي بناها.[١]
وقد قَدِم أبرهة الأشرم وجيشه على متن الفِيلة، وكان أبرهة على ظهر فيلٍ له اسمه محمود، فبرِك هذا الفيل في الطريق إلى مكة المكرمة وأناخ ولم يقبل النهوض،[١] وتورد الروايات كذلك ما رافق هذه الحادثة من مخاطبة عبد المطلب جدّ النبي -صلّى الله عليه وسلّم- لأبرهة، فقد أُخِذت إبلٌ لعبد المطلب، فسارع لاستردادها وحمايتها، فاستنكر أبرهة الأشرم أن يهتم زعيم كعبد المطلب بماشيته ويكترث لها أكثر من اكتراثه بالكعبة المشرفة وهي بيت الله الحرام، فما كان من عبد المطلب إلّا أن أجاب بأنّه هو مالك للماشية، بينما الكعبة المشرفة لها مالك وربّ يحميها ويحفظها من كلّ سوء وشرّ أُريد بها، وأنشد عبد المطلب قائلاً:[٢]
- لاهُمَّ إن العبد يمنع
-
- رحله فامنع رحالك
- لا يغلبنَّ صليبهم
-
- ومحالهم غدواً محالك
- إن كنتَ تاركهم
-
- وقبلتنا فأمر ما بدال
وحقّاً حمى الله -تعالى- بيته بإرساله طيوراً تحمل حجارةً من نار، أُلقِيت على رؤوس أبرهة وجيشه وفِيلته، ممّا أدى إلى أذيّتهم وانهزامهم،[١] وفي الخبر أنّ قائد الفِيلة ومن كان يسوسه قد عُمِيا وأُقعِدا يتسوَّلان الطَّعام من النَّاس بعد حادثة الفيل،[٣] كما جاء في الرواية عن أمّ المؤمنين عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما، أنّها قالت: (لقد رأَيْتُ قائدَ الفِيلِ وسَائِسَه أعمَيَيْنِ مُقْعَدَيْنِ يَستطعِمانِ بمكَّةَ)،[٤] وقد كانت حادثة الفيل التي وقعت في عام 570م، أعظم أحداث ذلك العام؛ لذلك سمّت العرب هذا العام باسمها، وكانت هذه الحادثة وهذا العام مفصليّين في التاريخ العربي وتاريخ الجزيرة العربية تحديداً؛ حيث أزال الله -تعالى- بعد هذه الحادثة بخمس سنوات حُكم الأحباش من بلاد اليمن، وتخلت عنهم وعن سطوتهم الجزيرة العربية.[١]
سورة الفيل
أراد الله -تعالى- أن يكون لحادثة الفيل تخليد وذِكر، وعبرة وعِظة، فجاءت إحدى سور القرآن الكريم حاملةً لاسم تلك الحادثة، وساردةً لما حدث في ذلك اليوم، وذلك في سورةٍ من قِصار السور، وهي سورة الفيل، وهي سورة مكيّة، وترتيبها التاسعة عشر في نزول السور على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد نزلت بعد سورة الكافرون وقبل سورة الفلق،[٥] فقد قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ*أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ*وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ*تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ*فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ)،[٦] فإنّ في هذه السورة العظيمة على قِصر آياتها، وقلّة كلماتها، عبراً ودروساً عدّة أراد الله تعالى أن نعلمها ونعتبر بها، ومن هذه العِبر والدروس:[٥]
- الامتياز الذي تحظى به الكعبة المشرفة، وما لها من منزلةٍ عظيمةٍ ومكانةٍ جليلةٍ عند الله تعالى، ففي سورة الفيل إشارة لهذه المكانة والمنزلة، وتذكير لجميع المسلمين ولغير المسلمين كذلك، بحرمة بيت الله وقدسيّته، وحرمة التعرّض له بأي إيذاءٍ أو تخريبٍ.
- التأكيد على أنّ نصر الله -سبحانه وتعالى- لعباده ولدين الإسلام مُحتَّم، وأنّ للظالمين وللظلم عاقبةً سيئةً، وأن الله -سبحانه وتعالى- هو الغالب.
- التأريخ للحوادث والأمور بحادثة الفيل بعد أن وقعت هذه الحادثة، فكان العرب في الجاهليّة وقبل الإسلام، وقبل أن يكون التاريخ بالبعثة النبوية أو بالهجرة النبويّة، يؤرِّخون بحادثة الفيل؛ فيقولون: وقع هذا الأمر قبل حادثة الفيل بكذا سنة، أو وُلد فلان بعد حادثة الفيل بكذا سنة.[١]
- التَمهيد بواسطة حادثة الفيل إلى بعثة النبي -صلّى الله عليه وسلّم- والتّعريض والإشارة إلى اقترابها.[١]
- الزيادة لقدر اليقين في قلوب المسلمين، بقدرة الله -تعالى- وعظمته.[٧]
- التذكير والعِظة لكلّ كافر بالله تعالى، وكلّ متكبّر، وكلّ من يسعى لانتهاك حرمات الله -تعالى- كبيته الحرام، ولذلك بدأت سورة الفيل بقوله تعالى: (ألم تَرَ)، فجاءت بصيغة المضارع؛ للتنبيه على أنّ لكلّ متكبّر ومنتهك لحرمات الله -تعالى- عاقبةً سيئةً ووخيماً كما حدث لأبرهة الأشرم.[٢]
المراجع
- ^ أ ب ت ث ج ح علي أبو الحسن الندوي (1425هـ)، السيرة النبوية (الطبعة الثانية عشر)، دمشق: دار ابن كثير، صفحة: 126-132. بتصرّف.
- ^ أ ب “حادثة الفيل”، articles.islamweb.net، 26-7-2003، اطّلع عليه بتاريخ 31-12-2017. بتصرّف.
- ↑ عبد الملك بن هشام (1955)، السيرة النبوية لابن هشام (الطبعة الثانية)، مصر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي، صفحة: 57، جزء: 1. بتصرّف.
- ↑ رواه ابن حجر، في مختصر البزار، عن عائشة بنت أبي بكر، الصفحة أو الرقم: 1/468، إسناده حسن.
- ^ أ ب الطاهر بن عاشور (1984)، التحرير والتنوير، تونس: الدار التونسية للنشر، صفحة: 543-544، جزء: 30. بتصرّف.
- ↑ سورة الفيل، آية: 1-5.
- ↑ مبارك بن مسلم الشعبني (10-1-2014)، “سورة الفيل دروس وعبر”، www.alwatan.com، اطّلع عليه بتاريخ 31-12-2017. بتصرّف.