محتويات
'); }
الأخلاق
حثَّ الإسلامُ وغيره من الشّرائع السماويَّة على التحلِّي بالأخلاق الكريمة والصِّفات الفاضِلة، وحذَّر من سيّئ الأخلاق وذميم الصّفات، وما لها من آثارٍ سلبيّةٍ على الفرد والمجتمع، وقد بيّن النَّبيّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- أنَّ إحدى أجلى وأهمّ غايات بعثته نبيَّاً من الله تعالى إلى عموم النَّاس هي تقرير الأخلاق وإتمامُها، وقد ورد ذلك في قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: (إنَّما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ)،[١] ومن بين الأخلاق الكريمة التي حثّت النُّصوص على التخلُّق والتَّحلي بها خلُق الحِلم، وفيما يأتي تعريفٌ بهذا الخلق الكريم، وبيانُ كيف يكون الإنسان حليماً، وحديثٌ عن فضل الحِلم وثمراته على الفرد والمُجتمَع.
تعريف الحِلم
الحِلم لُغةً
جذر كلمة الحِلم من حَلُم؛ الحاء واللام والميم جذرٌ صحيحٌ دالٌّ على أصولٍ ثلاثةٍ مختلفةٍ ومُتبايِنةٍ في الدّلالة والمعنى:[٢]
'); }
- الأصل الأوّل: رؤية الشّيء في المنام.
- الأصل الثَّاني: تثقُّب الشّيء.
- الاصل الثَّالث: ترْكُ العَجَلَة، وهو المراد هُنا؛ فالحِلم خِلاف العَجَلة، والتَّسرُّع، والطَّيش.
الحِلم اصطِلاحاً
أورد علماء التّزكية والأخلاق تعريفاتٍ عديدةً للحِلم؛ تُقارِب معناه اللغويّ، ومن هذه التَّعريفات:[٣]
- تعريف الرّاغب الأصفهانيّ: ضبط النَّفس والطِّباع عند ثورة الغضب، وعدم الانفعال.
- تعريف الجاحظ: ترك الانتقام عند الغضب رَغم القُدرة عليه.
- تعريف المنَّاوي: رَفْع الإنسان للمؤاخَذة عمَّن آذاه تعقُّلاً واتّزاناً.
- تعريف الجرجانيّ: الطّمأنينة عند ثوران الغضب، والعدول عن مجازاة الظَّالم.[٤]
والحليم هو اسمٌ من أسماء الله الحُسنى؛ يعني أنَّ الله تعالى يرى معصية العُصاة، ويشهد مُخالَفة أوامره وارتكاب نواهيه، فلا يحمله ذلك كلُّه إلى المُسارعةِ والعجلة في الانتقام منهم، مع كونه -سبحانه وتعالى- قادراً على ذلك،[٥] وممّا ورد في هذا المعنى قول الله تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ)،[٦] وقد ورد اسمَ الله الحليم في آياتٍ كثيرةٍ، ومنها على سبيل المثال: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)،[٧] والحِلم كذلك خلُق الأنبياء وصفتهم، كما قال الله تعالى في وصف النَّبيّ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ).[٨]
كيفيّة الاتّصاف بالحِلم
ثمَّة أمورٌ عدَّةٌ إذا تابعها الإنسان والتزمها فقد يصل معها إلى خلُق الحِلم، فيتمثَّله ويصبح بتمثُّله والتَّخلق به حليماً، ومن هذه الأمور:[٩]
- يُكتَسَب خُلق الحِلم ويتعزَّز في النَّفس بالتَّربية، والتَّكرار، والتَّعود، ودليل ذلك ما رُوِي عن النَّبيّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- أنّه قال: (إنّما العلمُ بالتَّعلُّمِ، وإنما الحِلمُ بالتَّحلُّمِ، ومن يتحرَّ الخيرَ يُعطَهْ، ومن يتَّقِ الشرَّ يُوَقَّه).[١٠]
- يُكتَسَب خُلق الحِلم باستحضار فوائده وآثاره الطيِّبة على المُتخلِّق به في الدُّنيا والآخرة، وكذلك تذكُّر عواقب ومساوئ كلٍّ من: الانفعال، والغضب، والانتقام عند عدم التَّخلُّق بالحِلم.
- يُكتَسب خُلق الحِلم بمُصاحَبةِ المعروفين بالحِلم، والأناة، وسعة الصّدر، والصّبر، وملازمتهم؛ للتعلُّم منهم والتَّخلُق بخلُقهم؛ لأنَّ الإنسان بطبيعته يتأثّر بخُلُق وسلوك من يُصاحبه، ويلازمه.
مكانة الحِلم
إنَّ للحلم كما لسائر الأخلاق الحميدة مكانةً ومنزلةً عظيمةً في الإسلام، وممَّا يُدلِّل على هذه المكانة شواهدُ عدَّةٌ، منها:[٩]
- الحليم اسمٌ من أسماء الله تعالى الحُسنى؛ فهو -سبحانه وتعالى- مُتَّصِفٌ بالحلم على العباد، كما جاء في مواضع كثيرةٍ من القرآن الكريم، فمن حلمه عليهم عدم استعجاله لمعاقبتهم، وصبره على عصيانهم وذنوبهم، فإن كان الله تعالى الغنيُّ عن العباد والمخلوقات جميعاً حليماً بهم، حتّى بمن يعصيه ويرتكب نواهيه، فكيف لا يكون الإنسان حليماً في تعامله مع النَّاس من حوله؟
- الأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام-، والسَّلف الصَّالح من الصّحابة رضي الله عنهم، ومن بعدهم من التَّابعين، عُرِفوا بالحِلم وتحلَّوا به فكان لهم خُلقاً ثابتاً في نفوسهم، فرُوِيت القصص والأخبار عن حِلمهم. وممَّا ورد عن حِلم النَّبي -عليه الصلَّاة والسَّلام- ما روته أمُّ المؤمنين عائشة بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- أنَّها سألت النَّبيّ عليه الصَّلاة والسَّلام: (هل أتى عليك يومٌ أشدُّ من يومِ أُحُدٍ؟ قال: لقد لقيتُ من قومك ما لقيتُ، وكان أشدَّ ما لقيتُ منهم يومَ العقبةِ؛ إذ عرضت نفسي على ابنِ عبدِ ياليلِ بن عبدِ كلال، فلم يُجِبني إلى ما أردتُ، فانطلقتُ وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفِقْ إلّا وأنا بقرنِ الثّعالبِ، فرفعتُ رأسي، فإذا أنا بسحابةٍ قد أظلَّتني، فنظرتُ فإذا فيها جبريلُ، فناداني، فقال: إنّ اللهَ قد سمع قول قومِك لك، وما ردّوا عليك، وقد بعث اللهُ إليك ملكَ الجبالِ؛ لتأمره بما شئتَ فيهم، فناداني ملكُ الجبالِ، فسلَّم عليَّ، ثم قال: يا محمّدُ، فقال: ذلك فيما شئتَ، إن شئتَ أن أُطبِقَ عليهم الأخشبَينِ؟ فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: بل أرجو أن يُخرِجَ اللهُ من أصلابهم مَن يعبد اللهَ وحدَه، لا يشركُ به شيئًا).[١١]
- فالنَّبيّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- لحِلمه ورحمته، رفض أن يقوم مَلَك الجبال بإطباق الجبلَين على أهل الطائف، رغم ما لقِي منهم من تعذيبٍ وأذىً وسخريةٍ، فرغم مقدرته على الانتقام منهم لم يقبل، بل دعا لهم بالهداية، وقلبه يرتجي أن يهتدوا إلى الإيمان بالله تعالى وتوحيده.
فضل الحِلم وثمراته
للحِلم فضائل كثيرة، وفوائد وثمرات عديدة تعود على الحليم الذي تخلَّق بهذا الخُلق والتزمه، منها ما هو دُنيويّ، ومنها ما هو أُخرويّ، ومن هذه الفضائل والفوائد:[١٢]
- نيل محبَّة الله تعالى، والفوز برضاه.
- محبَّة النَّاس للحليم، واحترامهم له، ووقوفهم معه.
- إزالة البغضاء، ومنع المُشاحَنات والخصومات بين النَّاس.
- الحِلم وكظم الغيظ من أفضل الطُّرق لردع السُّفهاء والرَّدِّ عليهم؛ لأنَّ الغضب والمُشادَّات قد تُفضي إلى مشاكل وآثارٍ سلبيَّةٍ، بخلاف الحِلم مع السّفيه الذي قد يحسم الخِلاف والجدل، ويُزيل الإشكال.
المراجع
- ↑ رواه الألباني، في السّلسلة الصّحيحة، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم: 45، حديثٌ صحيح.
- ↑ ابن فارس (2002)، مقاييس اللغة، دمشق: دار اتّحاد الكُتّاب العرب، صفحة: 74، جزء: 2. بتصرّف.
- ↑ صالح بن حميد، نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (الطبعة الرابعة)، جدة: دار الوسيلة، صفحة: 1736، جزء: 5. بتصرّف.
- ↑ الجرجاني (1982)، التعريفات (الطبعة الأولى)، بيروت: دار الكتب العلمية، صفحة: 92. بتصرّف.
- ↑ أبو حامد الغزالي (1987)، المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى (الطبعة الأولى)، قبرص: الجفان والجابي للنشر، صفحة: 103. بتصرّف.
- ↑ سورة النحل، آية: من الآية 61.
- ↑ سورة البقرة، آية: من الآية 235.
- ↑ سورة هود، آية: 75.
- ^ أ ب محمد بن عبد الله النونان، “خلق الحِلم”، صيد الفوائد، اطّلع عليه بتاريخ 2-4-2017. بتصرّف.
- ↑ رواه الألباني، في السّلسلة الصّحيحة، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم: 342، حديثٌ حسن.
- ↑ رواه البخاري، في الصحيح، عن عائشة بنت أبي بكر، الصفحة أو الرقم: 3231، حديث صحيح.
- ↑ صالح بن حميد وآخرون، نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (الطبعة الرابعة)، جدة: دار الوسيلة، صفحة: 1752، جزء: 5. بتصرّف.