محتويات
البرزخ
تُعتبر حياة البرزخ من الغيبيَّات التي لا يُمكن لأحدٍ التَّكهُّن بماهيتها، فضلاً عن التنبُّؤ بحوادثها وأحداثها، إلا ما ثبت بخصوصها وجاء ذكره وبيان تفاصيله في الكتاب أو الأحاديث التي صحّت نسبتها إلى رسول الله، لذلك فإن حياة البرزخ هي فترةٌ مجهولة التفاصيل، وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض حوادثها، وأورد العلماء شرحاً لتلك النصوص يتلاءم مع فهمهم لها، فما المقصود بحياة البرزخ؟ وما هي كيفيتها وتفاصيلها وأحداثها؟ هذا ما ستبحثه هذه المقالة.
تعريف البرزخ
- البرزخ لغةً: هو الفاصل بين الشيئين، والحاجز بينهما، لذلك يقال للميت إذا دخل القبر إنّه بدأ يحيا في حياة البرزخ، لأنه بدخوله إلى القبر يكون قد انتقل إلى مرحلةٍ بين الدنيا والآخرة، ويكون القبر هو الفاصل بين الحياة والآخرة، وبرازخ الإيمان هي مراحل يمرُّ بها المسلم بين الشك واليقين، والبرزخ كذلك: هو تلك الحياة التي تفصل بين الدنيا والآخرة بعد موت جميع الخلائق، وتكون في الفترة التي تتبع مرحلة النفخ في الصور، ويُسمى الحاجز بين الظل والشمس برزخاً، وقيل إنّ البرزخ هو: مسافةٌ بين الجنة والنار.[١]
- حياة البرزخ في الاصطلاح هي:[٢] المرحلة والفترة التي تفصل بين الحياة الدنيا والآخرة، ويكون لها عالمٌ مخصوص يختلف عن الحياة الدنيا ويختلف عن الآخرة، ويَرِدُ على هذه المرحلة جميع البشر بعد موتهم.
- وقيل إنّ المقصود بحياة البرزخ: الحاجز والفاصل الذي يفصل بين الناس وبين الرجوع إلى الحياة الدنيا أو الانتقال إلى الآخرة، حيث يبقون في تلك المرحلة حتى تقوم الساعة، فلا هم يعودون إلى الدنيا ولا ينتقلون إلى الآخرة إلى أن يشاء الله، وتنتهى مرحلة الحياة البرزخية بالنفخ في الصور، ثم بعد ذلك يُبعث الخلائق للعرض والحساب.
كيفية حياة البرزخ
سبق أن ذُكر في بداية المقالة أنّ حياة البرزخ تُعتبر من الأمور الغيبيّة التي لا اطلاع لأحدٍ عليها، لذلك نشأ الخلاف حول تفاصيلها وكيفيتها بين العلماء عموماً، وبين علماء المسلمين بشكلٍ خاص، وقد وردت في بعض النصوص القرآنيّة والأحاديث النبوية إشارةٌ ورمزيةٌ إلى شيءٍ مما يحصل للميت في القبر كما تطرقت بعض الأحاديث إلى تلك المرحلة بطريقةٍ مباشرة، وفيما يلي بيان ما ذهب إليه العلماء بخصوص حياة البرزخ اعتماداً على ما القرآن وما ثبت من السنة:[٣]
مرحلة سؤال الملكين
ثبت في الصحيح أنَّ أول ما يجري للميت بعد خروج روحه من جسده ودخوله في قبره أنه يأتيه ملكان لسؤاله عما كان منه في حياته، وهو بذلك يبدأ فعلياً في عيش الحياة البرزخيّة، فإن وضع أهل الميت الميت في القبر ثم انصرفوا عنه فإنّه يأتيه ملكان موكَّلان به وبكلِّ من مات من البشر مبعوثان من الله -سبحانه وتعالى- فيُقعدانه في موضعه، ويسألانه عن دينه وربه ورسوله؛ وبناءً على تلك الأسئلة والأجوبة التي تندرج تحتها تتضح معالم حياته البرزخيّة وكيف سيحياها، فإن أجاب بما يوافق الحق لقي في قبره من نعيم أهل الجنة ما شاء الله له أن يتنعَّم به، وإن كانت إجاباته مُناقضةً للحق، أو كان في حياته بعيداً عن الله فإنه لن يتمكن من الإجابة عنها وسيعجز، ويجد نفسها محتاراً في الإجابة؛ وحينها يكون قبره جزءاً من نار الآخرة، فيتعذب به إلى أن يشاء الله؛[٤] قال الله سبحانه وتعالى في سورة إبراهيم فيما يخص سؤال الملكين للميت في قبره: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ…).[٥]
أما العبد المؤمن فإن من صفات الملكَين اللذين يأتيانه في قبره أنهما بيض الوجوه للدلالة عن حسن منزله وبياض سريرته، وحسن ما قدَّم في حياته الدنيا، فيستبشر لرؤيتهما ويفرح بهما، وأما العبد العاصي فيأتيه ملكان وجوهما مُسودَّةٌ لإظهار سواد حاله، وما قد عمله في الدنيا من الذنوب والمعاصي.
وقد ثبت ما تمت الإشارة إليه بخصوص تلك المرحلة من حياة البرزخ في العديد من النصوص النبويّة الصحيحة، من ذلك ما رُوي من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنّ رسولَ اللهِ -عليه الصّلاة والسّلام- قال: (إنّ العبدَ إذا وُضِعَ في قَبرِه، وتولى عنه أصحابَه، وإنه ليسمعُ قَرْعَ نعالِهم، أتاه ملكانِ، فَيُقعَدانِه فيقولانِ: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجلِ، لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، فأما المؤمنُ فيقولُ: أشهدُ أنه عبدُ اللهِ ورسولُه، فَيُقالُ له: انظرْ إلى مقعدِكَ من النارِ، قد أبدلك اللهُ به مقعدًا من الجنةِ، فيراهما جميعًا. قال قَتادَةُ وذكر لنا: أنه يُفْسحُ في قبرِه، ثم رجع إلى حديثِ أنسٍ، قال: وأما المنافقُ والكافرُ فَيُقالُ له: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجلِ؟ فيقولُ: لا أدري، كنتُ أقولُ ما يقولُ الناسُ، فَيُقالُ: لا دَريتَ ولا تَليتَ، ويُضْرَبُ بِمَطارِقَ من حديدٍ ضربةً، فيصيحُ صيحةً، يَسمعُها من يليِه غيرَ الثقلين).[٦]
مرحلة العذاب أو النعيم
بعد جواب الميت عن سؤال الملكَين له في قبره يتَّضح حاله، فإما أن يُرى مقعده من الجنة، بعد أن يُجيب عن أسئلة الملكين له بثبات ويقين، أو أن يُرى مقعده من النار إن كان على غير ما جاء به الله وأمر به، فيتمنى المؤمن الذي يرى مقعده من الجنة أن يُقيم الله الساعة حتى يبلغ مكانه الذي رآه من الجنة، ويتنعّم به في الصالحين، ثم يتَّسع له قبره مدَّ بصره بعد أن يعلم حقيقة مآله، ومن هذه النقطة يبدأ باستشعار حياة البرزخ بالنعيم أو العذاب، فيكون قبر المؤمن روضةً من رياض الجنة.
أما من كان في الدنيا مُكذّباً بدين الله مُشركاً به، كافراً بما أنزل على أنبيائه من الرسالات أو عاصياً لأوامره؛ فإنه وبعد سؤال الملكَين له يرى مقعده من النار، ويُعاين ما ينتظره من العذاب، فيسأل الله أن يُطيل حياة البرزخ وألا يُقيم الساعة حتى لا يصل إلى تلك المنزلة ويتعذَّب بما عاينه من أصناف العذاب، وبعد ذلك يبدأ عذابه في القبر في الحياة البرزخيّة فيُضيَّق عليه في قبره، ويذوق من أصناف العذاب وأشكاله ما قدَّره الله له، ومن عذابه المعنوي أن تُعرض عليه منزلته في النار مرتين كلَّ يوم، فيُصيبه الهم، ويتمنى ألا تقوم الساعة، قال تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا…).[٧]
أما عن كيفيّة حياة البرزخ لمن استحقوا عذاب القبر أو نعيمه، وهل أنَّ العذاب والنعيم يقعان على الروح فقط أم على الروح والجسد معاً؟ فإن ذلك مما اختلف فيه العلماء، وبيان آراء كل فريقٍ وأدلته فيما يلي:[٨]
- يرى الغزاليّ رحمه الله وابن هُبيرة أنّ النعيم والعذاب في القبر إنما يقع على الروح، ولا يقع على الجسد، فلا يشعر الميت جسدياً بعذاب القبر أو نعيمه، ولا يتأثر به مطلقاً، بل يكون عذابه أو نعيمه عبارةً عن شعورٍ داخلي يُحسَّ به، تماماً كالنائم يرى حلماً يسرُّه فيسعد في منامه ويشعر باللذة والراحة والسعادة، أو يرى حُلماً مزعجاً فيتأذى وتتأذى روحه به دون أن يُمسَّ جسده به، فترى النائم حين يكون يشاهد كابوساً يتقلَّب ويتأوَّه، وكأنه يُعذَّب حقيقةً، مع أن جسده لا يسمُّه من ذلك شيءٌ أبداً.
- ذهب معظم علماء أهل السنّة إلى أنَّ الميت في القبر يُعذَّب بروحه وجسده ويُنعَّم بهما، فيكون العذاب والنعيم في تلك المرحلة من الحياة البرزخيّة واقعاً على الروح والجسد على قول أصحاب هذا الرأي، فيتأثر جسد الميت بالعذاب، كما تتألم روحه وتشعر بذلك، وكذلك الحال إن كان من أهل النعيم، فإن جسده وروحه يشعران به، فتسعد الروح به، ويتأثر الجسد ويتلذذ به، تماماً كالحي وفي حال اليقضة، إن مرَّ به نعيمٌ سعدت روحه وتأثر جسده، وإن جاءه همٌ أو ألمٌ جزعت روحه وتأذى جسده.
- يرى النّووي -رحمه الله- من فقهاء الشافعية وكبار علمائهم أنّ النّعيم والعذاب في مرحلة البرزخ يقع على الجسد فقط، ولا تشعر به الروح مُطلقاً، لكن ذلك يكون بعد أن تعود إليه روحه، وشعور الجسد بذلك العذاب أو النعيم يكون على الجسد كاملاً، سواء كان الجسد كاملاً أو غير كامل، كمن تعرَّض لحادث أدى لفقده أحد أعضائه، كحريقٍ أو حادثٍ أو إصابته في معركة أو حرب أو غير ذلك.
- يرى ابن جريرٍ الطبري أنّ العذاب والنعيم في مرحلة الحياة البرزخية إنّما يكون للجسد فقط، ولا تتأثر به الروح ولا تعود إلى جسمه في هذه المرحلة مطلقاً، فيتأذى الجسم بعذاب القبر، ولا تشعر الروح به لعدم وجودها في جسد الميت في هذه المرحلة كما يرى الطبري.
المراجع
- ↑ أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصري، العين، بيروت: دار ومكتبة الهلال، صفحة 338، جزء 4. بتصرّف.
- ↑ “مفهوم الحياة البرزخية”، إسلام ويب، 4-6-2012، اطّلع عليه بتاريخ 10-4-2017. بتصرّف.
- ↑ ابن باز، “هل إحياء الأموات في القبر هو مثل إحيائهم في الدنيا”، موقع الإمام ابن باز، اطّلع عليه بتاريخ 20-3-2017.
- ↑ محمد صالح المنجد (2-7-2002)، “أسئلة القبر الثلاثة”، الإسلام سؤال وجواب، اطّلع عليه بتاريخ 23-4-2017. بتصرّف.
- ↑ سورة إبراهيم، آية: 27.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم: 1374، صحيح.
- ↑ سورة غافر، آية: 46.
- ↑ مجموعة من العلماء (1425)، الموسوعة الفقهية الكويتية (الطبعة الرابعة)، الكويت: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، صفحة 388-400، جزء 15. بتصرّف.