حجة الوداع
قرّر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- الذهاب للحجّ للمرة الأولى في حياته في شهر ذي القعدة، من العام العاشر للهجرة، وذلك بعد أن شعر بدنوّ الأجل، حيث قال لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه- عندما بعثه إلى اليمن: (يا معاذُ إنَّك عسى ألَّا تلقاني بعد عامي هذا لعلك أن تمُرّ بمسجدي وقبري)،[١] فأعلن الرسول نيته للخروج إلى الحجّ، ولمّا وصل الخبر إلى القبائل توجّهت من جميع أنحاء الجزيرة العربية إلى المدينة المنورة؛ طمعاً في صحبة الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- في تلك الحجة، التي أُطلق عليها اسم حجة الوداع، فبلغ عدد الذين حضروا مئة ألف مسلمٍ، ومن العلماء من قال بأنّ عدد المسلمين وصل إلى مئة ألفٍ وأربعةٍ وأربعين ألفاً، وفي أواخر ذي القعدة خرج رسول -الله صلّى الله عليه وسلّم- من المدينة المنورة، وأحرم في ذي الحلفية قارناً بين الحجّ والعمرة، ولمّا وصل مكة في الرابع من ذي الحجة أتمّ عمرته، ولم يتحلّل من إحرامه؛ لأنّه كان قارناً، وفي اليوم الثامن من ذي الحجّة توجّه إلى مِنى، وبات فيها، وفي صباح يوم التاسع من ذي الحجّة توجّه إلى عرفات، ونزل في نَمِرة حتى زالت الشمس، وخطب خطبةً عظيمةً جامعةً.[٢]
شرح خطبة حجة الوداع
خطب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بالناس يوم عرفة خطبةً عظيمةً، ركّز فيها على عددٍ من النقاط المهمة، وفيما يأتي بيانها:[٣]
- استهلّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- خطبته بالتذكير بحُرمة الدم، حيث قال: (إنَّ دماءكم وأموالكم حرامٌ عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهرِكم هذا، في بلدكم هذا)،[٤] والمقصود بقول الرسول -عليه الصلاة والسلام- أنّ سفك الدماء وأخذ الأموال بغير حقّ حرام، وممّا يؤكّد شدّة التحريم، وخطورة القيام بذلك، التشبيه بحُرمة اليوم الذي خطب فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحرمة شهر ذي الحجّة، وحرمة مكة المكرمة.
- أكّد الرسول على انتهاء عصر الجاهلية، وكلّ ما يمتّ له بصلةٍ، حيث قال: (ألا كل شيءٍ من أمرِ الجاهلية تحت قدمي موضوعٌ، ودماء الجاهلية موضوعةٌ، وإن أول دمٍ أضع من دمائِنا دمُ ابن ربيعة بنِ الحارث، كان مسترضعاً في بني سعدٍ فقتلته هُذيلٌ، وربا الجاهلية موضوعٌ، وأولُ رباً أضع ربا عباسٍ بن عبد المطلب، فإنه موضوعٌ كلُّه)،[٤] والمقصود بقول الرسول -عليه الصلاة والسلام- أنّ كلّ ما أحدثه أهل الجاهلية قبل الإسلام من شرائعٍ، وعباداتٍ، باطلةٌ مردودةٌ، ولا يُعمل بها، حتى مسائل الدماء، والقتل التي حدثت في الجاهليه متروكةٌ لا قصاص فيها، ولا ديةُ، ولا كفارةُ، ثم بيّن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- للناس أنّ أول دمٍ تركه من دماء أقربائه، دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، الذي كان قُتل في سن الطفولة، حيث كانت مرضعته من بني سعد، وقد حصلت حرب بين بني سعد، وقبيلة هذيل في ذلك الوقت، فأُصيب بحجرٍ من حجارة هذيل فقتل، ثمّ أكّد أن ربا الجاهلية متروكٌ؛ أي يجب أن يُردّ الزائد عن رأس المال، وبيّن أنّ أول رباً متروكٌ هو ربا عمّه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.
- ذكّر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- الأمة بأداء الحقوق، حيث قال: (فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان اللهِ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهنَّ أن لا يوطئن فُرُشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غيرَ مُبرِّحٍ، ولهنَّ عليكم رزقُهن وكسوتُهنَّ بالمعروف)،[٤] والمقصود من الحديث السابق التذكير بحقوق النساء على الرجال، حيث إنّ الزوج يأخذ زوجته بعهد الله تعالى، ويستحلّ فرجها بكلمة الل؛ه أي بعقد الزواج، وحقوق الزوجة على الزوج النفقة، من مأكلٍ ومشربٍ من غير إسرافٍ ولا تبذيرٍ، وحقوق الزوج على زوجته عديدة، ومنها قول رسول الله: (أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه)؛ أي لا يسمحن بدخول أحد يكره الزوج دخوله إلى بيته.
- أوصى الرسول المسلمين بالتمسّك بالقرآن الكريم، حيث قال: (وقد تركتُ فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتُم به، كتابَ الله)،[٤] والمقصود من قول رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه يُوصي الأمة بالتمسّك بكتاب الله، من خلال الاعتقاد والعمل بما جاء فيه، فإن فعلوا ذلك لن يضلّوا بعده أبداً، ومن الجدير بالذكر أنّ النبي -عليه الصلاة والسلام- ذكر القرآن الكريم ولم يذكر السنة النبوية؛ لأنّ العمل بكتاب الله يقتضي العمل بسنة نبيه عليه الصلاة والسلام.
البلاغ مهمة أمة الإسلام
من الأمور التي حرص رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- عليها في خطبة الوداع، توضيح مهمته شخصياً، ومهمة الأمة الإسلامية من بعده، ألا وهي تبليغ الرسالة للناس كافةً، ولا بُدّ من الإشارة إلى أنّ البلاغ شيءٌ، والهداية شيءٌ آخر، حيث قال الله تعالى: (مَا على الرَّسُول إِلا الْبلاغُ الْمُبِينُ)،[٥] بينما يرجع أمر الهداية إلى مشيئة الله تعالى، مصداقاً لقوله: (إنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)،[٦] وقد ختم رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- خطبته في حجة الوداع ببيان مهمته، وهي تبليغ الناس دين الله تعالى، حيث قال: (وأنتم تُسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغتَ وأدَّيتَ ونصحتَ، فقال بإصبعه السبَّابة، يرفعُها إلى السماء، وينكتها إلى الناس اللهمَّ اشهد، اللهمَّ اشهد ثلاث مراتٍ)،[٤] وقد فهم الصحابة -رضي الله عنهم- طبيعة المهمة التي كُلّفوا بها بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعلموا أنّ ما يقومون به من تبليغ للرسالة إنّما هو واجبٌ عليهم، لا منّةً ولا فضلاً لأحدٍ فيه، وكان ذلك الفهم ظاهراً في كلام ربعي بن عامر رضي الله عنه، عندما بيّن أنهم قومٌ ابتعثهم الله ليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.[٧]
المراجع
- ↑ رواه ابن حبان، في صحيح ابن حبان،عن معاذ بن جبل، الصفحة أو الرقم: 647، أخرجه في صحيحه.
- ↑ “حجة الوداع”،www.islamstory.com،اطّلع عليه بتاريخ 17-10-2017. بتصرّف.
- ↑ “شرح الحديث رقم 1218”،www.dorar.net،اطّلع عليه بتاريخ 17-10-2017. بتصرّف.
- ^ أ ب ت ث ج رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن جابر بن عبد الله، الصفحة أو الرقم: 1218، صحيح.
- ↑ سورة النور، آية: 54.
- ↑ سورة القصص، آية: 56.
- ↑ “وصايا النبي في حجة الوداع (2-2)”، www.islamstory.com، اطّلع عليه بتاريخ 17-10-2017. بتصرّف.