محتويات
'); }
حق الوالدين
حقُّ الوالدَيْن بالإحسان إليهما أهم الحقوق الواجب تأديتها بعد حقّ الله -تعالى- في عبادته وحده لا شريك له والذي يُعدّ أسمى وأجلّ الحقوق، لذا قرن الله -تعالى- بين حقّه وحقّ الوالدَين كما في قوله -تعالى-: (وَاعْبُدُوا اللَّـهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)،[١] كما وقد قَرَن بين شكرِه وشكرِهِما كما في قوله -تعالى-: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)،[٢] وسبب هذا الجمع بين حقه تعالى وحق الوالدين سواء أكان في الإحسان أم في الشكر أنّ الله -تعالى- كما تكفّل بالنشأة الأولى للإنسان، كانت النشأة الثانية على عاتق الوالدَين فهما سبب وجوده، وهما من تحمّلا عناء تربيته وصقل أخلاقه.[٣]
الوالدين
أراد الله- تعالى- بالوالدَين في قوله -تعالى-: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)[١] الأب والأمّ،[٤] وقد عظّم حقهما وأعلى من شأنه بثلاثة أمور: أوّلها بجعل حقّهما تابعاً لحقّه وحقّ رسوله -صلّى الله عليه وسلّم- الذي أرشد العباد إلى طريق الهداية، لذا يُعدّ القيام بحقّ رسوله المُتمثِّل بوجوب محبته واتباع أوامره واجتناب نواهيه من ضمن عبادته -تعالى-،[٥] وثانيها بجعل حقّهما من الأسباب التي ينال بها العبد رضا الله -تعالى- فيتحقّق له بذلك الفوز والفلاح في الدُّنيا والآخرة، وثالثها بمنع إسقاط حقّهما مع اختلاف الظروف والأحوال، حتى أنّ خروج المسلم للجهاد في حال كونه فرض كفاية يستلزم موافقتهما ورضاهما، فإن عارض الوالدين خروج ابنهم إلى الجهاد لزمه طاعتهما وترك الجهاد.[٦]
'); }
فضل الوالدين
أوْلى الإسلامُ الوالدَين اهتماماً عظيماً، فقد أوْجب برّهما والإحسان إليهما في العديد من الآيات القرآنية،[٧] ويعود هذا إلى فضلهما العظيم والذي يظهر في عدّة أمور منها ما يأتي:
- يتحمّل الوالدان شتّى أنواع المشقة والعناء في سبيل تحصيل الخير لولدهما وإبعاد الشر عنه،[٨] وغمره بالعواطف الجياشة المليئة بالحبّ والحنان،[٩] فالأم تحمل على عاتقها عناء حمله ورَضاعِه والسّهر من أجله وغير ذلك الكثير، والأب لا يتوانى في طلب الرّزق والسّعي وراءه لتأمين العيش الكريم له.[٨]
- يرتبط الوالدان مع ولدهما بعلاقة نسب وقرابة قويّة يُستبعَد زوالها مع مرور الوقت على خلاف غيرها من العلاقات.[١٠]
- أراد الله -تعالى- أن يكون الوالدان هما السبب في وجود ولدهما في هذه الدنيا،[٩][١١] ولِكونهما صاحبا هذا الفضل العظيم لم يجعل الله -تعالى- طاعةً أوْلى من طاعتهما والبرّ بهما بعد طاعته -سبحانه-، وبذلك فإنّ مراتب الطّاعة ثلاثة: أوّلها طاعة الله -تعالى- الذي خلق الإنسان من العدم، وثانيها طاعة الوالدين اللذين كانا السبب في إيجاده، وثالثها طاعة من تكفّل بتربيته والعناية به حال إهمال والديه له، لذا لم يغفل نبي الله إبراهيم -عليه السلام عن الدّعاء لمَن تولّى تربيته.[١١]
الإحسان إلى الوالدين وبرهما
هناك العديد من الآيات الكريمة التي حثّت على الإحسان إلى الوالدَين وبرّهما ومن ذلك قوله -تعالى-: (وَقَضى رَبُّكَ أَلّا تَعبُدوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا إِمّا يَبلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُما أَو كِلاهُما فَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ وَلا تَنهَرهُما وَقُل لَهُما قَولًا كَريمًا * وَاخفِض لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحمَةِ وَقُل رَبِّ ارحَمهُما كَما رَبَّياني صَغيرًا)،[١٢] ويُقصَد بالقضاء الفصل والقطع في الأمر بالقول أو الفعل على اختلاف نوعَيه الإلهي والبشري، ويُعتبر قوله -تعالى-: (وَقَضى رَبُّكَ) من القول الإلهي الذي يُفيد الفصل في أمر عبادته وحده والإحسان إلى الوالدَين وقد أراد الله سبحانه وتعالى بقوله: (وَقَضى) حُكْماً قطعيّاً لا رجعةَ فيه.[١٣]
ومظاهر البرّ بالوالدَين عديدة منها: الحرص على التواضع لهما في الأقوال والأفعال، ومصاحبتهما بالحسنى، والحرص على رضاهما بامتثال أمرهما واجتناب نهيهما، والإكثار من الدعاء لهما بعد وفاتهما، والمحافظة على صلة أصحابهما وأقاربهما ممّن كانت تجمعه علاقة ودٍّ ومحبةٍ معهما، ولا بدّ من الإشارة إلى فضل برّ الوالدَين والإحسان إليهما حيث أنّه أحبّ الأعمال إلى الله -تعالى- وأفضلها بعد الصلاة على وقتها وذلك لِمَا رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنّه قال: (سَأَلْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أيُّ العَمَلِ أحَبُّ إلى اللَّهِ؟ قالَ: الصَّلَاةُ علَى وقْتِهَا قالَ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: برُّ الوَالِدَيْنِ)،[١٤][٣] وهذا مَدعاةٌ لِلمسلم بأن يتّصفَ ببرّه لِوالدَيه والإحسانِ إليهما؛ حتى يكون ذلك من أبرز صفاته واخلاقه[١٥] وتَظهر عناية الإسلام واهتمامه بالوالدَين والإحسان إليهما في العديد من الأمور منها ما يأتي:
- الأمر ببرّ الوالدَين والإحسان إليهما سواء كانا على دين الإسلام أو غيره، وقد دلّت على ذلك العديد من الآيات القرآنية منها قوله -تعالى-: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)،[١٦] والعديد من الأحاديث النبويّة ومن ذلك ما رواه البخاري عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- أنّها قالت: (قَدِمَتْ أُمِّي وهي مُشْرِكَةٌ، في عَهْدِ قُرَيْشٍ ومُدَّتِهِمْ إذْ عَاهَدُوا النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، مع ابْنِهَا، فَاسْتَفْتَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقُلتُ: إنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وهي رَاغِبَةٌ؟ أفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ)،[١٧] ويكون برّ الوالدَين حال كفرهما بثلاثة أمور: أوّلها الحرص على الإنفاق عليهما حال فقرهما قدر الاستطاعة، وثانيها الحرص على المعاملة اللّينة معهما قولا وفعلا، وثالثها الحرص على دعوتهما بالكلام اللّين للدّخول في الإسلام.[٣]
- الأمر بالبرّ بالوالدّين والإحسان إليهما لم يكن خاصّاً بهذه الأمّة، بل فرضه الله -تعالى- على ما سبقها من الأمم لقوله -تعالى-: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا).[١٨][٣]
- المقارنة بين الشرك بالله -تعالى- وعقوق الوالدين كما في قوله -تعالى-: (قُل تَعالَوا أَتلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُم عَلَيكُم أَلّا تُشرِكوا بِهِ شَيئًا وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا)،[١٩] ولِكون وجوب الشيء يقتضي تحريم خلافه كان أمر الله -تعالى- بالإحسان لِلوالدَين يقتضي تحريم تركه، ولا بدّ من الإشارة إلى أمرين: أوّلهما أنّ الأمر الإلهي لم يأتِ بالكفّ عن الإساءة لِلوالدَين لأنّ ذلك ليس كافيا في تأدية حقّهما والبرّ بهما، بل جاء بالأمر بالإحسان إليهما لِإفادته معنيَين: أوّلهما تحريم الإساءة لِلوالدَين وضرورة إجتناب ذلك، وثانيهما الأمر بالإحسان إليهما، والامر الثاني الذي يُراد الإشارة إليه هو أنّ الموبقات في الإسلام سببع إحداها عقوق الوالدَين وذلك لقول رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (اجتنِبوا السَّبْعَ الموبِقاتِ، قيل: يا رسولَ اللهِ، وما هنَّ؟ قال: الشِّركُ باللهِ)[٢٠] إلى أن قال: (وعقوقُ الوالدينِ المُسلمَينِ).[٢٠][٣]
- الأمر الإلهي بالدعاء لِلوالدَين وكثرة الاستغفار لهما لقوله -تعالى-: (وَقُل رَبِّ ارحَمهُما كَما رَبَّياني صَغيرًا).[٢١][٣]
فضل الأم في الإسلام
دعا الإسلام إلى برّ الوالدَين والإحسان إليهما إلّا أنّه أولى الأم اهتماماً خاصّاً،[٢٢] ويظهر ذلك في أمرين: أوّلهما أنّ الله -تعالى- خصّ الأم بالذكر في قوله -تعالى-: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا)،[٢٣][٢٤] وثانيهما أنّ الإسلام قدّم برّها والإحسان إليها على ما يكون للأب من ذلك لما رواه البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّه قال: (جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، مَن أحَقُّ النَّاسِ بحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قالَ: أُمُّكَ قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أُمُّكَ قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أُمُّكَ قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أبُوكَ)،[٢٥][٢٦][٢٧] فنصيب الأم من البرّ وحسن الصلة أعظم فهو يُعادل ثلاثة أمثال نصيب الأب، وسبب هذه المكانة الخاصة التي منحها الإسلام للأم؛ انفرادها بتحمُّل مشقتَي الحمل والولادة،[٢٧] وقد دلّ قوله -تعالى-: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا)[٢٣] على صعوبة هذيْن الأمريْن،[٢٤] وبعد ذلك تتحمّل مشقة وتعب عاميْن من الرّضاعة يقول -تعالى-: (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ).[٢][٢٨]
ويُضاف إلى ذلك فضلها الذي يتبع فضل الله -تعالى- في بقاء طفلها على قيد الحياة، إذ إنّها تحمل على عاتقها مسؤولية مولودٍ ولا قدرة على فعل شيء، فتغمره بحنانها وعطفها، وتتولّى أمر طعامه وشرابه، وتسهر الليالي معه حال خوفه وحال مرضه حتى وإن كان ذلك كلّه على حساب راحتها وصحتها، فلولاها ما عاش هذا الوليد ولا كبر،[٢٢] لذا فلا عجب من كونها الأحقّ به من أبيه فقد روي (أنَّ امرَأَةً أتَتِ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالَتْ: يا رسولَ اللهِ إنَّ ابنِي هذا كان بَطنِي له وِعاءً وحِجرِي له حِواءً وثَديِي له سِقاءً وزعَم أبوه أنَّه يَنزِعُه مِنِّي قال: أنتِ أحَقُّ به ما لم تُنكَحي)،[٢٩][٢٦]
المراجع
- ^ أ ب سورة النساء، آية: 36.
- ^ أ ب سورة لقمان، آية: 14.
- ^ أ ب ت ث ج ح مجموعة من المؤلفين، مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، صفحة 31-33، جزء 36. بتصرّف.
- ↑ ابن عثيمين (1423ه)، تفسير الفاتحة والبقرة (الطبعة الأولى)، السعودية: دار ابن الجوزي، صفحة 267، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ ابن عثيمين، مكارم الأخلاق (الطبعة الأولى)، الرياض: دار الوطن، صفحة 38. بتصرّف.
- ↑ سعد البريك، دروس الشيخ سعد البريك، صفحة 1، جزء 137. بتصرّف.
- ↑ علي القرني، دروس للشيخ علي القرني، صفحة 1، جزء 29. بتصرّف.
- ^ أ ب عبد المحسن العباد، شرح سنن أبي داود، صفحة 1، جزء 255. بتصرّف.
- ^ أ ب محمد الحمد، عقوق الوالدين، صفحة 38-39. بتصرّف.
- ↑ “فضل الوالدين على الأولاد لا يوازيه فضل أحد”، www.islamweb.net، 18-4-2018، اطّلع عليه بتاريخ 22-9-2020. بتصرّف.
- ^ أ ب الشعراوي (1997م)، تفسير الشعراوي، مصر: دار أخبار اليوم ، صفحة 10601، جزء 17. بتصرّف.
- ↑ سورة الإسراء، آية: 23-24.
- ↑ حسين المهدي، صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم والأمثال، صفحة 145، جزء 2. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن مسعود، الصفحة أو الرقم: 5970 ، صحيح.
- ↑ محمد الهاشمي (1423ه – 2002م)، شخصية المسلم كما يصوغها الإسلام في الكتاب والسنة (الطبعة العاشرة)، بيروت: دار البشائر الإسلامية، صفحة 55. بتصرّف.
- ↑ سورة الممتحنة، آية: 8.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أسماء بنت أبي بكر، الصفحة أو الرقم: 5979 ، صحيح.
- ↑ سورة لقمان، آية: 15.
- ↑ سورة الأنعام، آية: 151.
- ^ أ ب رواه شعيب الأرناؤوط ، في تخريج سنن أبي داود، عن عمير بن قتادة الليثى، الصفحة أو الرقم: 2875 ، صحيح لغيره.
- ↑ سورة الإسراء، آية: 24.
- ^ أ ب محمد الصابوني (1400ه – 1980م)، روائع البيان تفسير آيات الأحكام (الطبعة الثالثة)، بيروت: مؤسسة مناهل العرفان، صفحة 248، جزء 2. بتصرّف.
- ^ أ ب سورة الأحقاف، آية: 15.
- ^ أ ب مجموعة من المؤلفين، مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، صفحة 36، جزء 36. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم: 5971 ، صحيح.
- ^ أ ب سعد البريك، دروس للشيخ سعد البريك، صفحة 4، جزء 138. بتصرّف.
- ^ أ ب محمد الحمد، عقوق الوالدين، صفحة 33. بتصرّف.
- ↑ محمد طنطاوي (1998م)، التفسير الوسيط للقرآن الكريم، القاهرة: دار نهضة مصر، صفحة 120، جزء 11. بتصرّف.
- ↑ رواه أحمد شاكر، في مسند أحمد، عن جد عمرو بن شعيب، الصفحة أو الرقم: 10/177، صحيح.