أركان الإسلام والإيمان

جديد الفرق بين القضاء و القدر

القضاء والقدر

سَبَق علم الله ومشيئته كلّ شيء، فهو الوحيد المُطّلع على خفايا الأمور والمُتحكّم فيها، وقد جعل الله الإيمان بما قدَّر وقضى أصلاً من أصول الإيمان؛ وذلك لما يعتري هذه المسألة من أهميّةٍ فائقة تُؤثّر في صحّة الاعتقاد، وبالتّالي قبوله أو عدم قبوله، فإنّ المُسلم إن آمن وسلَّم بما أصابه من خيرٍ أو شرّ فقد آمن حقّاً بقدرة خالقه وتصرّفه في كلّ شيء، أمّا إن جحد وكفر وتململ فقد أساء مع خالقه وأدخل في إيمانه الوهن والضّعف، وممّا يُنقَل عن حسن الإيمان بالقضاء والقدر أنّ الإمام الشافعيّ -رضي الله عنه- سُئل مرّةً عن القدر فقال:

ما شِئْتَ كَانَ وَإنْ لَمْ أَشَأْ

وَمَا شِئْتُ إِن لَّمْ تَشأْ لَمْ يَكُنْ

خَلقْتَ الْعِبَادَ لِمَا قَدْ عَلِمْتَ

فَفِي الْعِلْمِ يُجْزَى الْفَتَى وَالْمُسِنْ

فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَمِنْهُمْ سَعِيدٌ

وَمِنْهُمْ قَبِيحٌ وَمِنْهُمْ حَسَنْ

عَلَى ذَا مَنَنْتَ وَهَذَا خَذَلْتَ

وَذَاكَ أَعَنْتَ وَذَا لَمْ تُعِنْ.[١]

معنى القضاء والقدر

معنى القضاء

للقضاء في اللّغة عدّة معانٍ، منها:[٢]

  • الحُكم: ولذلك يقولون: القاضي؛ بمعنى الحاكم، وقضى الله عز وجل بكذا: حكم به.
  • أَمَر: قال تعالى: (وقضى ربّك ألا تعبدوا إلا إيّاه)،[٣] ومعنى قوله (قضى) في هذه الآية: أنّه تعالى أمر ألا تعبدوا إلا إيّاه.
  • أخبر: قال الله تعالى: (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَٰلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَٰؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ)،[٤] بمعنى أخبرناه أن دابرهم مقطوع بالصّباح، وقال تعالى: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتُفسِدُنّ في الأرض مرّتين ولتَعلُنَّ علوّاً كبيراً)،[٣] أي أخبرناهم بذلك.
  • أراد: وهو قريب من معنى (حَكَمَ)، قال الله تعالى: (إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون)،[٥] ومعنى ذلك حكم بأن يكون فيكون في الحال،

معنى القدر

من معاني القدر في اللّغة التّرتيب والحدّ الذي ينتهي إليه الشّيء، نقول قدَّرتُ البناء تقديراً إذا رتَّبتُه وحددّتُه، وقال تعالى (وقدَّر فيها أقواتها)،[٦] أي رتَّب أقواتها وحدّدها، وقال تعالى: (إنّا كل شيء خلقناه بقَدَر)،[٧] المقصود من قوله تعالى هنا أنّ كل شيءٍ خُلِقَ بترتيبٍ وحَد، فمعنى قضى وقدَّر: حكم ورتَّب.[٢]

معنى القضاء والقدر

القضاء والقدر هو حكم الله تعالى في أمرٍ ما بمدحه أو ذمِّه وبكونه وترتيبه على صفة مُعيّنة وإلى وقت مُعيّن فقط،[٢] وقيل: هو ما قدَّرَه الله تعالى وقضاه على العالمين في علمه الأزليّ ممّا لا يملكون صرفه عنهم، وهذه العقيدة جاء بها جميع الرّسل وأقرَّتها جميع الرّسالات الإلهيّة، وليست خاصةً بالمسلمين وحدهم.[٨]

الفرق بين القضاء والقدر

كثيراً ما يتبادر للأسماع عند المصائب والكوارث، وربّما الأحزان ونادراً عن الأفراح، مصطلح القضاء والقدر، فلماذا يُقرَن القضاء والقدر غالباً بالشّر؟ وهل هناك فرقٌ جليٌّ بين القدر والقضاء؟ وكيف يكون الإيمان بالقضاء والقدر؟

علاقة القضاء والقدر بالشَّر

ينبغي على المُؤمن أن يُدرك يقيناً أنّ القضاء والقدر لا علاقة له بالشرّ والكوارث؛ فقضاء الله تعالى وقدره لا يحملان الشرّ للإنسان حتّى وإن أصابه الضّرر من قضاء الله وقدره؛ لأنّ كل ضررٍ ربما يلحق بالمرء من مُتعلّقات القضاء والقدر لا يجوز أن يُسمّى شرّاً إلا على سبيل المَجاز في الاستعمال اللغويّ فحسب، حيث قضاء الله كلَّه خير، فالله سبحانه وتعالى بحكمته وقضاءه وتقديره وعلمه الأزليّ يضع كلّ شيءٍ في موضعه المُناسب، ويكون ذلك من قبيل الحكمة الإلهيّة، عَلِم ذلك من عَلِمَه، وجَهِل من جَهِله.[٨]

الفرق بين القضاء والقدر

اختلفت أقوال العلماء في الفرق بين القضاء والقدر وكثرت الآراء في ذلك؛ فقد قال بعضهم بأنّه لا يوجد فرق بين الاثنين؛ إنّما هما لفظتان لمُصطلحٍ واحد، وأنّ معنى القضاء موجودٌ في معنى القدر، أمّا الفريق الآخر فقد قالوا بأنّه يوجد اختلافٌ في المعنين، وفيما يأتي بيانٌ للأقوال والأدلة:[٩]

  • ذهب فريقٌ من العلماء، منهم الرّاغب الأصفهانيّ، إلى أنَّ القضاء أخصُّ من القدر؛ لأنّ القضاء هو الفصل بين التّقدير، فالقدر هو التّقدير، والقضاء هو الفصل بأمرٍ مُعيّن ثم القطع فيه، وقد ذكر بعض العلماء أنّ القدر بمنزلة الشّيء المُعَدِّ للوزن، أمّا القضاء فهو بمنزلة الوزن نفسه، ومن ذلك ما قاله أبو عبيدة عامر بن الجراح لعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- لمّا أراد عمر الفرار من الطّاعون بالشّام: (أتفرُّ من القضاء؟ قال: أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله)؛[١٠] وفي ذلك إشارةٌ وتنبيهٌ إلى أنّ القدر ما لم يكن قضاءً فمن المرجوّ أن يدفعه الله، أمّا إذا قضى الله فلا دافع لقضائه، ودليل ذلك قوله تعالى: (وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا).[١١]
  • ذهب الفريق الثّاني إلى أنّ القضاء والقدر بمنزلةٍ واحدة، ويقول الخطابيّ في الفرق بينهما: (جماع القول في باب القضاء والقدر أنّهما مُتلاصقان لا انفكاك لأحدهما عن الآخر؛ لأن كل واحدٍ منهما بمنزلة الأساس وأحدهما بمنزلة البناء، فمن أراد الفصل بينهما فقد سعى إلى هدم البناء ونقضه)، ويرى الجرجانيّ أنّ القدر عبارةٌ عن خروج المُمكنات من العدم إلى الوجود واحداً بعد واحد مُطابقاً للقضاء، وأنّ القضاء يكون في الأزل، والقدر يكون فيما لا يزال، والفرق بين القدر والقضاء هو أنّ القضاء وجود جميع الأشياء والأعمال والأقوال في اللّوح المحفوظ مُجتمعةً، أمّا القدر فهو وجودها مُتفرّقةً في الوقائع والحوادث بعد حصول مُسبّباتها.
  • ذكر فريقٌ من العلماء، كما ينقل ابن حجر العسقلانيّ، أنّ القضاء هو الحكم الكُليّ الإجماليّ في الأزل، وأنّ القدر هو جُزئيات ذلك الحكم وتفاصيله.
  • يرى بعض العلماء أنّ القدر هو تقدير الشّيء قبل قضائه، وأنّ القضاء هو الفراغ من الشّيء وإتمامه وفق ما قُدِّر له وبه. وقد استشهد أصحاب هذا الرّأي للتّفريق بين القضاء والقدر بأنّ شبّهوا القدر بالثّوب؛ فالقدر يكون بمنزلة تقدير الخيّاط للثّوب، فهو قبل أن ينسجه ويُفصّله على مقاس صاحبه فإنّه يُقدّره، فإمّا أن يزيد أو أن ينقص، فإذا فصّله فقد قضاه وفرغ من تقديره وفاته وقت التّقدير، وبذلك يكون القدر أسبق من القضاء.

وخلاصة القول أنّ الأقوال الواردة في الفرق بين القضاء والقدر كمسألتين مُترابطتين كثيرة، وليس في القرآن الكريم أو السُنّة النبويّة دليلٌ واضح يُشير إلى الفرق بينهما، إنّما هي اجتهاداتٌ تقوى وتضعف بالنّص، ولكل فريقٍ رأيه ودليله، وليس ذلك موضع تأثير في مسألة القضاء والقدر والإيمان بها.

مراتب الإيمان بالقضاء والقدر

وضع العلماء عدداً من المراتب للقدر يجب إدراكها جميعاً حتّى يكتمل إيمان المسلم، وتلك المراتب هي:[١٢]

  • الإيمان بأنّ الله عالمٌ بكل شيء جملةً وتفصيلاً، أزلاً وأبداً، سواء كان ذلك ممّا يتعلّق بأفعاله عزَّ وجلّ أو بأفعال عباده، فالله سبحانه وتعالى وحده يعلم ما كان، ويعلم ما سيكون، ويعلم ما لم يكن، ولو كان كيف سيكون.
  • الإيمان بأن الله تعالى كتب ما سبق به علمه من مقادير الخلائق إلى يوم القيامة في اللّوح المحفوظ.
  • الإيمان بمشيئة الله النّافذة وقدرته الشّاملة؛ فما شاء الله وأراده كان، وما لم يشأ ولم يُرِد لم يكن ولم يوجد لعدم مشيئته لذلك، لا لعدم القدرة على إيجاده، ومن ذلك قول الشافعيّ سابق الذّكر.
  • الإيمان بأن الله خالق كلّ شيء، وأن لا خالق غيره، ولا رَبّ سواه، هو وحده خلق الخلق وأعمالهم، فأفعال العباد من الطّاعات والمعاصي جميعها تدخل في خلق الله وقضائه وقدره ومشيئته، أمّا كون إيجادها فهو من العباد فعلاً وكسباً من ناحية الأجر والإثم، فالله عزّ وجلّ هو الخالق لأفعالهم وهم الفاعلون لها إيجاداً، فيكون التّقدير من ذلك علمه بفعلهم، ويكون القضاء فعلهم لها على الوجه الذي قدّره.

كيف يُؤمن المسلم بالقضاء والقدر

هناك بعض أمور يجب على المسلم أن يقوم بها ويتيقّن بصدقها حتّى يكون إيمانه بالقضاء والقدر حقيقةً وواقعاً، لا مُجرّد كلامٍ خارجٍ دون معرفة توابعه، أو دون أن يكون مُصدَّقاً بالعمل والقلب والجوارح، وبيان ذلك فيما يأتي:[١٣]

  • أن يعلم أنَّ ما أصابه لمِ يكن ليُخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليُصيبه.
  • أن يوقن أن الخلق جميعاً لو اجتمعوا على أن ينفعوه بشيء لن ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضرّوه بشيء لن يضرّوه إلا بشيء قد كتبه الله عليه.
  • أن يُؤمن بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن كل ما في هذا الكون من حركة أو سكون، أو حياة أو موت، أو خير أو شر، أو طاعة أو معصية، فإنّما تجري بتقدير الله ومشيئته وإراته وعلمه وحكمته، فلم يكن شيء من ذلك قهراً عليه سبحانه وتعالى عن ذلك ولا عبثاً منه عَزَّ وَجَلَّ.

استمدَّ العلماء واستنتجوا تلك النّقاط من الحديث المشهور في بيان معنى الإيمان بالقضاء والقدر، والذي يرويه ابن عباس رضي الله عنه حيث يقول: (كنتُ خلفَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يومًا قال يا غلامُ ، إني أعلِّمُك كلماتٍ: احفَظِ اللهَ يحفَظْك، احفَظِ اللهَ تجِدْه تُجاهَك، إذا سألتَ فاسألِ اللهَ، وإذا استعنْتَ فاستعِنْ باللهِ، واعلمْ أنَّ الأمةَ لو اجتمعتْ على أن ينفعوك بشيءٍ، لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ لك، وإنِ اجتمعوا على أن يضُرُّوك بشيءٍ لم يضُروك إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ عليك، رُفِعَتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُّحُفَ).[١٤]

قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: (وقع في نفسي شيء من القدر فأتيت أبي بن كعب فقلت: يا أبا المنذر وقع في نفسي شيء من القدر خفت أن يكون فيه هلاك ديني أو أمري، فقال: يا ابن أخي إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم، ولو أن لك مثل أحد ذهبا أنفقته في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطئك لم يكن ليصيبك، وإنك إن مت على غير هذا أدخلت النّار).[١٥]

المراجع

  1. أبو محمد عفيف الدين عبد الله بن أسعد بن علي بن سليمان اليافعي (1992)، مرهم العلل المعضلة في الرد على أئمة المعتزلة (الطبعة الأولى)، بيروت: دار الجيل، صفحة 97.
  2. ^ أ ب ت أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، الفصل في الملل والأهواء والنحل، القاهرة: مكتبة الخانجي، صفحة 31، جزء 3. بتصرّف.
  3. ^ أ ب سورة الإسراء، آية: 23.
  4. سورة الحجر، آية: 66.
  5. سورة البقرة، آية: 117.
  6. سورة فصلت، آية: 10.
  7. سورة القمر، آية: 49.
  8. ^ أ ب المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، موسوعة المفاهيم الإسلامية العامة، مصر: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، صفحة 530. بتصرّف.
  9. الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، “القضاء والقدر”، مجلة البحوث الإسلامية ، المجلد 79، صفحة 119-122. بتصرّف.
  10. رواه العيني، في نخب الأفكار، عن عبدالله بن عباس، الصفحة أو الرقم: 14/61، روي مطولاً بغير هذا اللفظ بسندٍ صحيح.
  11. سورة مريم، آية: 21.
  12. المنتدى الإسلامي، “مسائل مهمة في باب القضاء والقدر”، مجلة البيان، العدد 176، صفحة 30. بتصرّف.
  13. محمد بن جميل زينو (1997)، مجموعة رسائل التوجيهات الإسلامية لإصلاح الفرد والمجتمع، الرياض: دار الصميعي للنشر والتوزيع، صفحة 162، جزء 2. بتصرّف.
  14. رواه الترمذي، في سنن الترمذي، عن عبدالله بن عباس، الصفحة أو الرقم: 2516، صحيح.
  15. رواه الذهبي، في المهذب، عن زيد بن ثابت، الصفحة أو الرقم: 8/4212، إسناده صحيح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى