السيرة النبوية

جديد لماذا جهر النبي بالدعوة

سبب جهر النبي بالدعوة

كانت الدعوة في البداية سِرّية، وبفقيت على ذلك لمدّة ثلاثة أعوام، حتى أمر الله -تعالى- نبيّه بالانتقال من الدعوة السرّية إلى الجهرية، فقال -تعالى-: (فَاصدَع بِما تُؤمَرُ وَأَعرِض عَنِ المُشرِكينَ)،[١] وهذا هو سبب جهر النبيّ بالدعوة، فَجَهَر رسول الله وأصحابه بالدعوة، وأوضح للمشركين ما هم فيه من الجهل والضلال، فعاندوه ورفضوا دعوته جهلاً وتكبّراً منهم، ولكنّه -صلى الله عليه وسلم- ثبت واستمرّ على دعوته بعرض الحجّة والدليل، فلمّا رأوا العجز من أنفسهم على مواجهته، وردّ الحُجّة بالحُجّة، بدأوا بالتضييق على رسول الله وصحابته وإيذاؤهم، وبخاصة الضعفاء منهم، والذين لا ظهر لهم يحميهم، فتعرّض العديد منهم للتعذيب والسبّ والشتم والإيذاء.[٢]

وقد كانت الدعوة في بدايتها سرّاً، فقد كان معظم الناس غارقون في ظلمات الجهل والضلال، ولم يصدح بها رسول الله حتى آمن معه عددٌ قليلٌ جداً، ثم جهر بها فكانت القلوب متعطّشةً لمن ينقذها ممّا كانت تعيش فيها، فجاء الإسلام ليخرجهم من هذا الظلام إلى النّور حتّى تمكّن في قلوبهم، فاستجابوا لأمر ربهم ورسوله -صلّى الله عليه وسلّم-، وأحبّوه وأخذوا بما نزل عليه من القرآن الكريم، وطبّقوه وانتهجوه في حياتهم، وعلِموا أنّ الطريق المستقيم إنما يكون باتّباع الرسول وما أُنزل عليه، واجتناب ما نهى عنه، فحفظوا القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وتعلّموا أحكام هذا الدين وسُننه، فكانت الهمّة والاستعداد منهم، وكان الذكاء والفطنة من البيئة التي عاشوها، فانسجمت معاً حتى أخرجت جيلاً متمسّكاً بالوحي وعاملاً عالماً به.[٣]

وكان لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- دورٌ في الدعوة إلى جنبِ النبيّ؛ حيث قام إلى الكعبة المشرّفة وبدأ يخطب بالناس، وكان تعرّض الصحابة الكِرام للأذى دافعاً لهم للثبات على دينهم، ولم يأذن الله لرسوله وأصحابه بالانتقال إلى المرحلة الجهرية من الدعوة إلا بعد أن أصبح للإسلام قاعدةٌ صلبةٌ متينة، لا تَتَزَعْزع بما يعصف بها، ومع ذلك فإن الجهر في بدايته لم يكن للجميع، بل كان يقع ضمن دائرة الأقربين من بني هاشم وبني عبد المطلب، فقال -تعالى-: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ* وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)،[٤] ثم توسّعت هذه الدائرة لتصل إلى قريش، وهم الفئة الممثّلة لغالبية سكّان مكة، وهؤلاء وإن لم يستجيبوا جميعاً لدعوة الرسول، إلّا أنّهم قاموا بحمايته، ولم يخرج عنهم إلا أبا لهب،[٥] وقد كان رسول الله رسولاً إلى الإنس والجنّ أجمعين.[٦]

موقف المشركين من الجهر بالدعوة

تعرّض رسول الله للأذى من قِبَل قومه بعدما جهر بدعوته، فقام عمّه أبو طالب بحمايته من أذى قومه، ولم تُطاوعه نفسه بترك نصرة ابن أخيه، إلا أنّه أبى أن يفارق دينه وأصرّ على الكفر،[٧] وقد بذلت فيه قريش ما بوسعها في سبيل دَحْر هذه الدعوة، فكانت تصدّ الناس عن سبيل الله، وتؤذي رسول الله ومَن آمن معه بالقول والفعل، رغم أنّهم ما عهدوا على رسول الله كذباً، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- قال: (لَمَّا نَزَلَتْ: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ)، صَعِدَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي: يا بَنِي فِهْرٍ، يا بَنِي عَدِيٍّ -لِبُطُونِ قُرَيْشٍ-، حتَّى اجْتَمَعُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أنْ يَخْرُجَ أرْسَلَ رَسولًا لِيَنْظُرَ ما هُوَ، فَجَاءَ أبو لَهَبٍ وقُرَيْشٌ، فَقالَ: أرَأَيْتَكُمْ لو أخْبَرْتُكُمْ أنَّ خَيْلًا بالوَادِي تُرِيدُ أنْ تُغِيرَ علَيْكُم، أكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قالوا: نَعَمْ، ما جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إلَّا صِدْقًا، قالَ: فإنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ فَقالَ أبو لَهَبٍ: تَبًّا لكَ سَائِرَ اليَومِ، ألِهذا جَمَعْتَنَا؟ فَنَزَلَتْ: (تَبَّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ وتَبَّ ما أغْنَى عنْه مَالُهُ وما كَسَبَ)).[٨][٩]

وكانت قريشٍ تُفكّر بأنّ نهاية آلهتهم ودينهم الذي يتّبعونه منذ زمن آبائهم وأجدادهم ستكون على يد النبيّ وأصحابه، فانتهجت معاداة رسالة الإسلام من خلال نشْر الادّعاءات الباطلة عن رسول الله والقرآن الكريم والصحابة السابقين إلى الإسلام، فقالوا عن رسول إنّه ساحرٌ ومجنونٌ وشاعرٌ، وهذا النهج من العداوة تعرّضت له جميع الرسالات السابقة قبل الإسلام، وقد ردّ القرآن على جميع هذه الأقاويل والادّعاءات الباطلة.[٩] ورأى سادات قريش أنّ الإسلام سيلغي سيادتهم وثراءهم الناتج من تجارتهم، ممّا دعاهم للمزيد من إيذاء رسول الله، فيروي عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قائلاً: (بيْنَما رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الكَعْبَةِ وجَمْعُ قُرَيْشٍ في مَجَالِسِهِمْ، إذْ قَالَ قَائِلٌ منهمْ: ألَا تَنْظُرُونَ إلى هذا المُرَائِي أيُّكُمْ يَقُومُ إلى جَزُورِ آلِ فُلَانٍ، فَيَعْمِدُ إلى فَرْثِهَا ودَمِهَا وسَلَاهَا، فَيَجِيءُ به، ثُمَّ يُمْهِلُهُ حتَّى إذَا سَجَدَ وضَعَهُ بيْنَ كَتِفَيْهِ).[١٠][١١]

وبسبب أذاهم الشديد دعا عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال ابن مسعود: (فَوَاللَّهِ لقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى يَومَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إلى القَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وأُتْبِعَ أصْحَابُ القَلِيبِ لَعْنَةً)،[١٠] وما كان دعاء الرسول عليهم إلّا لِما شاهده منهم من الوقوف في وجه كلّ مَن أراد الدخول في الإسلام، وممّا يدل على ذلك أنّ جبريل -عليه السلام- عرض عليه أن يُرسل عليهم ملك الجبال ليُطبق عليهم الأخْشَبين من شدّة أذيّتهم، وقد روى عبد الله بن عمرو -ري الله عنه- فقال: (بيْنَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُصَلِّي بفِنَاءِ الكَعْبَةِ، إذْ أقْبَلَ عُقْبَةُ بنُ أبِي مُعَيْطٍ فأخَذَ بمَنْكِبِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولَوَى ثَوْبَهُ في عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ به خَنْقًا شَدِيدًا، فأقْبَلَ أبو بَكْرٍ فأخَذَ بمَنْكِبِهِ ودَفَعَ عن رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقالَ: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وقدْ جَاءَكُمْ بالبَيِّنَاتِ مِن رَبِّكُمْ))،[١٢] وما زال هذا الأذى مستمرّاً حتى وصل الأمر بهم للاتّفاق على قتله ومحاولتهم لذلك عدّة مرّات، حتى أذِن الله -عزّ وجلّ- له ولأصحابه بالهجرة إلى المدينة المنورة.[١١]

دروس وعِبر مستفادة من جهر النبيّ بالدعوة

اقتضت سنّة الله -تعالى- في عباده الدّاعين إليه أن تكون طريقهم مليئةً بالمشقّة والتعب، وذلك مرتبطٌ بما يلازم عبوديّة الإنسان لربّه، فقد قال -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)،[١٣] وذلك بأن يسير في حياته وفق قواعد الإسلام، وأن يعمل جاهداً على أن يرسي هذه القواعد في مجتمعه، متحمّلاً ما يصيبه من الأذى في سبيل تحقيق هذا الهدف، ليتحقّق مفهوم التكليف، ويظهر صدق الصادق وكذب الكاذب في ادّعاء محبة الله -تعالى- ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، قال -تعالى-: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّـهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)،[١٤] وينطبق ذلك على أنبياء الله ورسله كونها سنّةٌ من سنن الله في خلقه، وهذا الأمر يعدّ طبيعياً لا يخلو منه طريق الدعوة، فكلّما ازدادت المشقّة وكبُرَ الابتلاء عُلِمَ أن هذا هو الطريق الصحيح إلى الله، وأنّ الوصول إلى الهدف ونصر الله بات قريباً.[١٥]

وقد تميّزت الدعوة الإسلامية بالعالميّة، ويظهر ذلك من خلال خروج رسول الله إلى الطائف كي يدعو أهلها إلى الإسلام، فلم يسكن ولم يهدأ رسول الله لحظةً في سبيل نشر الدعوة الإسلامية داخل مكة وخارجها، فمجرّد أن يلتمس في أيّ مكانٍ احتماليّة استجابة أهله إلى دعوته، يخرج إليهم ويدعوهم إلى توحيد الله -تعالى-، ومع ذلك فإن أهل الطائف رفضوه وآذوه وطردوه، وضربوه حتى سال الدم من قدميه الشّريفتين، وذلك يدلّ على عدم انحصار الإسلام لفئةٍ أو طائفةٍ معيّنةٍ من البشر، ويحثّ الدُّعاة على الثبات على طريق الدعوة إلى الله، فإن لم تستجب طائفةٌ من البشر، فلا بدّ من أنّ طائفة أخرى ستستجيب، فقد دعا رسول الله أهل مكّة ولم يستجيبوا له، فخرج إلى الطائف فلم يستجيبوا له، ولمّا عاد إلى مكة لم يهدأ؛ بل استمرّ بدعوة أهلها حتى استجاب له الأنصار في بيعة العقبة، فكانت هذه الاستجابة هي البذرة التي نبتت منها الدعوة الإسلامية.[١٦]

الدعوة في مكة

بدأ نزول الوحي على سيدنا محمد -صلّى الله عليه وسلّم- أولاً ليُعَلّمه ويخبره بنبوّته، ثم بعد ستّة أشهر جاءه ليخبره بأداء الرسالة، وأمره بالقيام بها، فقال -تعالى-: (قُمْ فَأَنذِرْ)،[١٧] فاستجاب الرسول لأمر ربّه، وبدأ بتنفيذ أمر الله بما يستطيع ووِفْق ما أُتيح له من الظروف المحيطة به، وبما يكون مناسباً مع مَن يدعوهم من الطبائع والمذاهب المختلفة، وقد اقتضت هذه الأمور أن تمرّ الدعوة بمجموعةٍ من المراحل في مكة المكرمة بما يتناسب مع الواقع الذي تواجهه هذه الدعوة، حتى تتحقّق الأهداف المرجوّة منها، مع ضرورة التنبّه إلى أنّ الثمار لا تأتي بسرعة، وإنّما تحتاج لوقتٍ من الزمن، وهذه التغييرات في أساليب الدعوة يمنحها الحيوية والمرونة، والثبات على الهدف، وملاءمة الواقع والثقافات والأفكار.[١٨]

المراجع

  1. سورة الحجر، آية: 94.
  2. محمد أبو شُهبة (1427)، السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة (الطبعة الثامنة)، دمشق: دار القلم، صفحة 291، جزء 1. بتصرّف.
  3. عبد المنعم نجم (1399)، تدوين السنة ومنزلتها (الطبعة الثالثة)، المدينة المنورة: الجامعة الإسلامية، صفحة 34. بتصرّف.
  4. سورة الشعراء، آية: 214-215.
  5. منير الغضبان (1992)، فقه السيرة النبوية (الطبعة الثانية)، مكة المكرمة: جامعة أم القرى، صفحة 145-146. بتصرّف.
  6. إسحاق السعدي (2013)، دراسات في تميز الأمة الإسلامية وموقف المستشرقين منه (الطبعة الأولى)، قطر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، صفحة 599، جزء 2. بتصرّف.
  7. محمد بن مبارك (1419)، حدائق الأنوار ومطالع الأسرار في سيرة النبي المختار (الطبعة الأولى)، جدة: دار المنهاج، صفحة 178. بتصرّف.
  8. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن عباس، الصفحة أو الرقم: 4770، صحيح.
  9. ^ أ ب عبد العظيم المطعني (1993)، سماحة الإسلام في الدعوة إلى الله (الطبعة الأولى)، القاهرة: مكتبة وهبة، صفحة 118-121. بتصرّف.
  10. ^ أ ب رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن مسعود، الصفحة أو الرقم: 520، صحيح.
  11. ^ أ ب محمد الدبيسي (2010)، السيرة النبوية بين الآثار المروية والآيات القرآنية، القاهرة: جامعة عين شمس، صفحة 346-351. بتصرّف.
  12. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن عمرو، الصفحة أو الرقم: 4815، صحيح.
  13. سورة الذاريات، آية: 56.
  14. سورة آل عمران، آية: 142.
  15. رمضان البوطي (1426)، فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة (الطبعة الخامسة والعشرون)، دمشق: دار الفكر، صفحة 78-79. بتصرّف.
  16. علي بادحدح، دروس للشيخ علي بن عمر بادحدح، صفحة 15، جزء 142. بتصرّف.
  17. سورة المدثر، آية: 2.
  18. أحمد غلوش (2003)، السيرة النبوية والدعوة إلى الله في العهد المكي (الطبعة الأولى)، بيروت: مؤسسة الرسالة، صفحة 419-420. بتصرّف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى