'); }
قصيدة هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
نظم هذه القصيدة الشاعر الأموي المعروف بالفرزدق. فمن هو الفرزدق؟
الفرزدق
اسمه همّام بن غالب بن صعصعة، يُكنّى بأبي فراس، ولُقّب بالفرزدق لضخامة وتجَهُّم وجهه، وتعني هذه الكلمة الرغيف. ولد في البصرة 641م ونشأ فيها، أبوه غالب سيّد بني تميم، وأمه ليلى بنت حابس، أخت الصحابيّ الأقرع بن حابس الذي يُعدّ من سادات العرب في الجاهلية، ترعرع في البادية فأخذ صفات أهلها من قوة الشكيمة، وجلفة الطباع، والتعالي الممزوج بالشرف والأصل والكرم.
عاش حياته متنقّلاً بين الخلفاء والأمراء والخلفاء يمدح أحدهم ثم يهجوه، ثم يعود إلى مدحه مرة أخرى، كان شديد الحبّ لآل بيت رسول الله محمد عليه السلام، مجاهراً بحبّهم، قوي العاطفة تجاههم، نظم في هذا الموضوع الكثير من القصائد، ولعل ميميّته في مدح علي بت الحسين هي أفضل مثال يُجسّد هذه العاطفة التي بسببها غضب هشام بن عبد الملك عليه، فأمر بحبس حرّيته ما بين مكة والمدينة، فلم يتورّع الفرزدق عن هجائه قائلاً:
'); }
أتحبسني بين المدينة والتي
إليها قلوب الناس يهوي منيبها
يقلب رأساً لم يكن رأس سيّدٍ
وعيناً له حولاء بادٍ عيوبها
عاش الفرزدق حياة طويلة قضى معظمها في الفجور، وتكشّفت له نواحي الحياة المختلفة بحلاوتها ومرارها، حتّى إذا عصفت به لحظات الزّهد تنبّه وهجا إبليس، ثمّ سرعان ما يعود إلى ما كان عليه. مرض في آخر حياته وقد قارب المئة عام.
عُرف الفرزدق بشعر الهجاء ما بينه وجرير والأخطل، وهم من عُرفوا بشعراء النّقائض، وهو أن يقوم الشاعر بكتابة قصيدة يتفاخر فيها بقبيلته، ويُمجّدها، فيأتي الشاعر الآخر ليرد عليه بقصيدة وبنفس الوزن والقافية.
تميّز شعر الفرزدق بفخامة العبارات، وقوّة الألفاظ، وكثرة غريب الشعر. واعتبر المؤرخون الفرزدق بأنّه أفخر شعراء العرب، وذلك لأن مواد الفخر اجتمعت فيه، فهو ذو نسب رفيع من أكبر قبائل العرب، ويملك همّة عظيمة كانت ظاهرة بشدّة في شعره. (1)
مناسبة القصيدة
لما حجّ هشام بن عبد الملك في أيام أبيه، طاف بالبيت وجهد ان يصل إلى الحجر الأسود ليستلمه فلم يقدر على ذلك بسبب كثرة الزحام، فنصب لنفسه كرسيّاً وجس عليه بنظر إلى الناس مع جماعة من أعيان الشام، فبينما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فطاف بالبيت. فلما انتهى إلى الحجر تنحّى له الناس حتى استلمه، فقال رجل من أهل الشام لهشام: من هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه، وكان الفرزدق حاضراً فقال: أنا أعرفه، ثمّ اندفع فأنشد هذه القصيدة التي أغضبت هشاماً فأمر بحبسه بين مكّة والمدينة. (2)
نص القصيدة
هَذا الّذي تَعرِفُ البَطْحاءُ وَطْأتَهُ
وَالبَيْتُ يعْرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ
هذا ابنُ خَيرِ عِبادِ الله كُلّهِمُ،
هذا التّقيّ النّقيّ الطّاهِرُ العَلَمُ
هذا ابنُ فاطمَةٍ، إنْ كُنْتَ جاهِلَهُ،
بِجَدّهِ أنْبِيَاءُ الله قَدْ خُتِمُوا
وَلَيْسَ قَوْلُكَ: مَن هذا؟ بضَائرِه،
العُرْبُ تَعرِفُ من أنكَرْتَ وَالعَجمُ
كِلْتا يَدَيْهِ غِيَاثٌ عَمَّ نَفعُهُمَا،
يُسْتَوْكَفانِ، وَلا يَعرُوهُما عَدَمُ
سَهْلُ الخَلِيقَةِ، لا تُخشى بَوَادِرُهُ،
يَزِينُهُ اثنانِ: حُسنُ الخَلقِ وَالشّيمُ
حَمّالُ أثقالِ أقوَامٍ، إذا افتُدِحُوا،
حُلوُ الشّمائلِ، تَحلُو عندَهُ نَعَمُ
ما قال: لا قطُّ، إلاّ في تَشَهُّدِهِ،
لَوْلا التّشَهّدُ كانَتْ لاءَهُ نَعَمُ
عَمَّ البَرِيّةَ بالإحسانِ، فانْقَشَعَتْ
عَنْها الغَياهِبُ والإمْلاقُ والعَدَمُ
إذ رَأتْهُ قُرَيْشٌ قال قائِلُها:
إلى مَكَارِمِ هذا يَنْتَهِي الكَرَمُ
يُغْضِي حَياءً، وَيُغضَى من مَهابَتِه،
فَمَا يُكَلَّمُ إلاّ حِينَ يَبْتَسِمُ
بِكَفّهِ خَيْزُرَانٌ رِيحُهُ عَبِقٌ،
من كَفّ أرْوَعَ، في عِرْنِينِهِ شمَمُ
يَكادُ يُمْسِكُهُ عِرْفانَ رَاحَتِهِ،
رُكْنُ الحَطِيمِ إذا ما جَاءَ يَستَلِمُ
الله شَرّفَهُ قِدْماً، وَعَظّمَهُ،
جَرَى بِذاكَ لَهُ في لَوْحِهِ القَلَمُ
أيُّ الخَلائِقِ لَيْسَتْ في رِقَابِهِمُ،
لأوّلِيّةِ هَذا، أوْ لَهُ نِعمُ
مَن يَشكُرِ الله يَشكُرْ أوّلِيّةَ ذا
فالدِّينُ مِن بَيتِ هذا نَالَهُ الأُمَمُ
يُنمى إلى ذُرْوَةِ الدّينِ التي قَصُرَتْ
عَنها الأكفُّ، وعن إدراكِها القَدَمُ
مَنْ جَدُّهُ دان فَضْلُ الأنْبِياءِ لَهُ؛
وَفَضْلُ أُمّتِهِ دانَتْ لَهُ الأُمَمُ
مُشْتَقّةٌ مِنْ رَسُولِ الله نَبْعَتُهُ،
طَابَتْ مَغارِسُهُ والخِيمُ وَالشّيَمُ
يَنْشَقّ ثَوْبُ الدّجَى عن نورِ غرّتِهِ
كالشمس تَنجابُ عن إشرَاقِها الظُّلَمُ
من مَعشَرٍ حُبُّهُمْ دِينٌ، وَبُغْضُهُمُ
كُفْرٌ، وَقُرْبُهُمُ مَنجىً وَمُعتَصَمُ
مُقَدَّمٌ بعد ذِكْرِ الله ذِكْرُهُمُ،
في كلّ بَدْءٍ، وَمَختومٌ به الكَلِمُ
إنْ عُدّ أهْلُ التّقَى كانوا أئِمّتَهمْ،
أوْ قيل: «من خيرُ أهل الأرْض؟» قيل: هم
لا يَستَطيعُ جَوَادٌ بَعدَ جُودِهِمُ
وَلا يُدانِيهِمُ قَوْمٌ، وَإنْ كَرُمُوا
هُمُ الغُيُوثُ، إذا ما أزْمَةٌ أزَمَتْ،
وَالأُسدُ أُسدُ الشّرَى، وَالبأسُ محتدمُ
لا يُنقِصُ العُسرُ بَسطاً من أكُفّهِمُ؛
سِيّانِ ذلك: إن أثَرَوْا وَإنْ عَدِمُوا
يُستدْفَعُ الشرُّ وَالبَلْوَى بحُبّهِمُ
وَيُسْتَرَبّ بِهِ الإحْسَانُ وَالنِّعَمُ
المراجع
(1) بتصرّف عن ديوان الفرزدق، شرحه وضبطه وقدّم له الأستاذ علي فاعور، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1987، ص5-10.
(2) المرجع السابق، ص511.