محتويات
'); }
اليقين
المؤمن من يَستشعر وجود الله – سبحانه وتعالى – معه في حياته كلّها بحركاته وسكناته، في فرحه وحزنه، وشدّته ورخائه، فيوقن حق اليقين أنّ الله مدبر الأمور ومسيّرها، كل شيء في الكون يَسير بحكمة الله وأوامره بدقة تامة، ولهدفٍ مُعيّن قد يعرفه الإنسان وقد يجهله ويبقى السبب الحقيقي في علم الغيب عند الله، أمّا إن كان سبب الحدوث مَجهولاً فإنّ المؤمن الحق يبقى على يقين بأنّ الله لا يُدبّر لعباده إلا ما كان فيه خيرٌ لهم، قال المصطفى – صلى الله عليه وسلم – في الصحيح: (عجبًا لأمرِ المؤمنِ، إن أمرَه كلَّه خيرٌ، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمنِ، إن أصابته سراءُ شكرَ، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر، فكان خيرًا له)،[١]
شعور اليقين هو شعورُ الراحة المطلقة للمرء، فهو يَطمئن لما تمرّ به حياته ولِما يحدث معه، لا يَقلق من غده ولا مُستقبله، فيشعر بأنّ الله بجانبه يرعاه برعايته ويُدبّر له الأمر وييسّر له الرزق، ويدفع عنه المكروه، فإن أصابه فرحٌ أو خيرٌ حمد الله على ما أعطاه وشكره لكرمه ونِعمه، وإن أصابه مكروهٌ حمد الله وصبر على ما ابتلاه يقيناً منه أنّ أجر ذلك الصبر سيخبئه الله – سبحانه وتعالى – له إلى يوم القيامة؛ لأن البلاء من الله اختبارٌ للصبر، ودفعٌ للذنوب، ورفعٌ للدرجات، وقد قال الله – سبحانه وتعالى – في وصف أهل اليقين والتقوى والإيمان: ﴿الَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.[٢]
'); }
تعريف اليقين بالله
معنى اليقين لغةً
تحمل كلمة اليقين في اللغة عدّة معانٍ منها:[٣]
- الثبات والوضوح: يقن الأمر يقناً: أي ثبت ووضُح، والوصف لذلك: يقين، ويقال: اليقين للعلم الذي انتفت عنه الشكوك والشُّبَه، ويُقال خبرٌ يقين: أي لا شكّ فيه، فاليقين خلاف الشك، ويقال للموت يقين؛ لأنه لا شك فيه ولا مراء، قال تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)،[٤]
- فسَّر العلماء اليقين الوارد في الآية بأنه الموت.[٥]
- العلم بالشيء علماً لا شكَّ فيه: منه أيقن الشيء وتيقن به: أي علمه، علماً لا شك فيه، والوصف لهذا المعنى مُوقَن، قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)،[٦] فقد وصف الله سبحانه وتعالى لقاءه بأنه أصبح علماً يقينياً عند عباد الله المخلصين.
معنى اليقين اصطلاحاً
كما أنَّ لليقين في اللغة عدّة معانٍ فإنّ له في الاصطلاح كذلك العديد من المَدلولات والمَعاني التي بيّنها عُلماء الشريعة الأفاضل، وكان من بين تلك التعريفات العديدة الآتي:
- اليقين: الطمأنينة في القلب واستقرار العلم فيه، وبذلك فإنّ اليقين له قسمان رئيسيان هما: العلم التام الذي لا ينافيه شك، والعمل بذلك الشيء وذلك العلم اليقيني الذي يدفع إلى عدم معصية الله علماً تاماً بأنّه هو وحده الخالق المدبّر وأنّه وحده له الأمر والحكم، ولا تجب الطاعة المُطلقة إلا له.[٧]
- اليقين: هو العلم بأنّ حكم الله هو خير الأحكام وأفضلها وأكملها وأصدقها، وأتمها وأعدلها، وأنّ الواجب على كل مكلّفٍ الانقياد له، مع الرضا والتسليم التام بكل الحوادث التي تمر بالمسلم،[٨] وذلك تصديقاً لقول الله – سبحانه وتعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).[٩]
- اليقين: هو التصديق الجازم الذي تستقرّ معه النفس وتطمئن.[١٠]
مراتب اليقين
ينقسم اليقين إلى ثلاثة مراتب أساسية هي: علم اليقين، وحق اليقين، وعين اليقين، وقد فسَّر العلماء تلك المراتب بتفسيرات مُتغايرة بناءً على اختلافهم في أصل اليقين، فكان للصوفية مثلاً تعريفهم الخاص، وكانت لأهل العقيدة نظرةٌ مختلفة تماماً، وفيما يلي بيان ذلك:[١١]
- قال بعضهم: علم اليقين ما يحصل عن مجرد الفكر والنظر فقط، أمّا عين اليقين فهو ما يحصل من مشاهدة العين عياناً وإبصار الشيء، وحقّ اليقين فهو اجتماع الإبصار والمشاهدة مع التفكر والتدبر بعظمة ذلك الشيء، فإذا أخبره الصادق بالمعجزات صار ذلك حقّ اليقين.
- قيل: علم اليقين هو ما حصل عن نظرٍ واستدلالٍ وتدبر وتفكر، أمّا عين اليقين فهو ما حصل عن مشاهدة ومعاينة للشيء المعلوم به، وحقّ اليقين هو ما حَصل عند المعاينة مع المباشرة لذلك الأمر؛ فعلم اليقين مثاله كمن علم تعويداً أنّ البحر فيه ماء فذلك الأمر يقيني لا يشك به عاقل، ويكون ذلك من خلال الاطلاع والتعوّد الناتج من السماع، أمّا عين اليقين فمثاله من مشى ووقف على ساحل البحر وعاينه وشاهده دون أن يطلع على تفاصيله، وحقّ اليقين مثاله من نزل إليه واغتسل فيه وشرب منه ولاحظ بعقله ومعاينته ملوحته؛ فالشخص الذي يعلم بأنّ الله واحدٌ وموجود فذلك عنده يقينٌ عام وهو علم اليقين، أي عنده خبرٌ وعلمٌ من البعيد دون اطلاعٍ أو معاينة، وأمّا من يصل بالكشف الروحي والخفيّ وتتجلّى عليه الصفات، فهذا عنده عين اليقين وهو صاحب مكاشفة ومشاهدة، ولكنّه ما زال على ساحل البحر، وأمّا الشخص الذي وصل إلى التجلّي الذاتي والمشاهدة الذاتية، فقد وصل إلى حقّ اليقين.
- قال علماء الأصول إنّ علم اليقين هو ما يقطع الاحتمال، وينهي الأمر، فلا يكون في الأمر شكُّ أو ريبة أو تردد.
صفات أهل اليقين
يتصف أهل اليقين بالعديد من الصفات التي أشارت إليها نصوص القرآن الصريحة والسنة الصحيحة، ومن تلك الصفات:[١٢]
- من صفات أهل اليقين أنهم يؤمنون بالغيب الوارد في آيات الله وأحاديث الرسول، قال تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).[١٣] فأهل اليقين يؤمنون بالبعث والنشور، والجنة والنار، لذا فإنّ الحياة بما فيها وبمن فيها تهون في أعينهم أمام مرضاة الله تعالى انتظاراً لجنته ومخافة الوقوع في عذابه.
- أهل اليقين هم الذين يوقنون بأن الرزق بيد الله وحده وليس لأحد تدخل في الأرزاق إلا بأمر الله – سبحانه وتعالى – وذلك لقول الحق سبحانه: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ).[١٤]
- أهل اليقين لا يزيغون عن الحق ولا تتشابه عليهم الأمور والوقائع؛ حيث إنّ اليقين هو العلم الذي لا يشوبه شك، قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)،[١٥] فأهل اليقين يعتقدون بكل ما جاء به الله عن طريق الوحي اعتقاداً جازماً، لذلك فهم لا يراءون ولا ينافقون، ولا تأخذهم في الحق لومة لائم.
- أهل اليقين هم الذين يُحكِّمون شرع الله تعالى في جميع أمورهم وأعمالهم وتحرّكاتهم ولا يركنون لأهل الباطل ولا يُمارون في الحق،
قال تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).[١٦]
- أهل اليقين يؤمنون بالقرآن الكريم كله، محكمه ومتشابهه، ناسخه ومنسوخه، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)،[١٧] فهم يدورون مع القرآن حيث دار يتخلقون بأخلاقه ويقفون عند حدوده وينتهون عند نواهيه.
- أهل اليقين يؤمنون ويصدّقون بإعجاز الله المتمثل في كونه، قال تعالى: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ)،[١٨] وقال سبحانه عن إبراهيم عليه السلام: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)،[١٩] فمن أبرز صفات أهل اليقين أنهم يتفكّرون في ملكوت الله ويرون إعجاز الله في خلقه ويؤمنون بها ممّا يدفعهم إلى زيادة اليقين بالله والتوكل عليه.
- أهل اليقين هم الذين يوقنون بأنّ النفع والضر بيد الله، وأن لا أحد بيده ذلك سوى الله عز وجل، قال تعالى: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)،[٢٠] وأنهم يؤمنون بالقضاء والقدر خيره وشره.
المراجع
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم ، عن صهيب بن سنان، الصفحة أو الرقم: 2999.
- ↑ سورة البقرة، آية: 3-5.
- ↑ خالد أبو عوف (12/9/2013)، “ما هو اليقين ومراتب اليقين وطرق الوصول إليه”، مدونة الروحانيات في الإسلام، اطّلع عليه بتاريخ 25/1/2017.
- ↑ سورة الحجر، آية: 99.
- ↑ أبو سهل محمد بن عبد الرحمن المغراوي، موسوعة مواقف السلف في العقيدة والمنهج والتربية (الطبعة الأولى)، القاهرة – مصر: المكتبة الإسلامية للنشر والتوزيع، صفحة 72، جزء 8. بتصرّف.
- ↑ سورة الرعد، آية: 2.
- ↑ علي بن إبراهيم بن داود بن سلمان بن سليمان، أبو الحسن، علاء الدين ابن العطار (2011)، الاعتقاد الخالص من الشك والانتقاد (الطبعة الأولى)، قطر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، صفحة 118. بتصرّف.
- ↑ أبو سهل محمد بن عبد الرحمن المغراوي، موسوعة مواقف السلف في العقيدة والمنهج والتربية (الطبعة الأولى)، القاهرة – مصر: المكتبة الإسلامية للنشر والتوزيع، صفحة 310، جزء 10. بتصرّف.
- ↑ سورة المائدة، آية: 50.
- ↑ محمد بن عبد الرحمن الخميس، أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة، السعودية: دار الصميعي للنشر والتوزيع، صفحة 391. بتصرّف.
- ↑ محمد بن علي ابن القاضي محمد حامد بن محمّد صابر الفاروقي الحنفي التهانوي (1996)، موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم (الطبعة الأولى)، بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، صفحة 1814، جزء 2. بتصرّف.
- ↑ د. بدر عبد الحميد هميسه، “صفات أهل اليقين”، صيد الفوائد، اطّلع عليه بتاريخ 25/1/2017. بتصرّف.
- ↑ سورة البقرة، آية: 3-5.
- ↑ سورة الذاريات ، آية: 20-23.
- ↑ سورة البقرة، آية: 118.
- ↑ سورة المائدة، آية: 50.
- ↑ سورة السجدة، آية: 24.
- ↑ سورة الجاثية، آية: 3-6.
- ↑ سورة الأنعام، آية: 75.
- ↑ سورة يونس، آية: 107.