محتويات
'); }
الحُدود في الإسلام
من الأمور والمسائل التي اشتملت عليها الشّريعة الإسلاميّة الحدود والعقوبات، والحدود هي نوعٌ من العقوبات التي شُرِّعت كرادعٍ عن اقتراف الذّنوب وعقوبةٌ لمن يقترف الجرائم والمعاصي التي نهى الله عنها، مثل السّرقة، وشرب الخمر، وقذف المُحصَنات، والزّنا وغيرها، وقد وضع الله هذه الحدود لحفظ المُجتمع الإسلاميّ من الضّياع، وصيانته من الجرائم، وحفظ أبنائه وبناته من الشّرور والشّهوات، كما أنّه بهذه الحدود تستقيم أمور المسلمين، وينتشر الأمن في البلاد الإسلاميّة بحيث يأمن الإنسان على نفسه وعرضه وماله ودينه، ولعل ذلك من أولى مقاصد الشّريعة الإسلاميّة التي تسعى وتهدف إلى حفظ أولويّات الإنسان في الحياة (النّفس والمال والدّين والعرض والنّسل)، وقد أكّد النّبي عليه الصّلاة والسّلام على أهميّة تطبيق الحدود حيث قال: (لَحَدٌ يُقامُ في الأرض خَيرٌ لأهلها من أن يُمطَروا ثلاثينَ صَباحاً)،[١] ومن الحدود التي قرَّرَتها الشّريعة الإسلاميّة حَدّ الحرابة، فما هي الحرابة؟ وما هو حدّها؟
معنى حدّ الحَرابة
الحَرابة مأخوذة من الحَرب، وهي ضد السِّلْم، وفي الاصطلاح هي: البروز لأخذ مال، أو لقتل، أو لإرعابٍ على سبيل المُجاهرة مُكابَرَة، اعتماداً على القوّة مع البعد عن المغوث.[٢]
'); }
ويُطلقُ عليها أيضاً قطع الطّريق، ومن عَبَّرَ بالحَرابة راعى نَصّ الكتاب وتأدّب مع الكتاب؛ لأنّ الله تعالى قال: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا)،[٣] فوصفهم بكونهم مُحاربين؛ ولأنّ هذه الجريمة لا يمكن أن تكون إلا وفيها صفة المُحاربة لجماعة المسلمين وأفرادهم والخروج عليهم بما فيه خوف وضرر وأذيّة، وليس المُراد به خروج البُغاة، وأيضاً لا تكون جريمة إلا إذا اشتملت على صورة مَخصوصة؛ فالذين عبروا بالحَرابة راعوا لفظ القرآن، والذين عبروا بقطع الطّريق راعوا أيضاً وصف نبي الله لوط عليه السّلام لقومه، قال تعالى: (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ)،[٤] فكلا التّعبيرين صحيح، ولكن التّعبير بالحَرابة فيه نوع من العموم.[٥]
رُكن حدّ الحَرابة
اتّفق الفقهاء على أنّ للحَرابة رُكناً واحداً، وهو الخروج على المارّين بالطّريق العام لأخذ المال منهم بشكلٍ يُشكّل رُعباً لهم، ويكون القاطعون ذوي قدرة على ذلك بحيث يكون لهم قوّة وجبروت يمكنهم من ذلك، فركن الحَرابة كما نَصّ الفُقهاء هو الخروج على المارَّة لأخذ المال على سبيل المُغالبة (القَسر) على وجهٍ يمتنع المارّة عن المرور (لا يستطيعون المرور بسبب الخوف والرّعب) وينقطع الطّريق، سواء أكان القطع من جماعةٍ أم من واحد، بعد أن يكون له قوّة القَطع (القدرة على قطع الطّريق من السّلاح والمُحاربين)، وسواء أكان القطع بسلاح أم غيره من العصا والحجر والخشب ونحوها، وسواء أكان بمشاركة الكل، أم الإعانة من البعض على قطع الطّريق؛ لأن قطع الطّريق يحصل بكل ما ذكر كما في السّرقة، ولأنّ هذا من عادة قُطّاع الطّرق، وبه يظهر أنّ قُطّاع الطّرق قومٌ لهم قوّةٌ ومَنَعة وعدد وعُدّة، بحيث لا يتمكّن المارّة من مُقاومتهم، يقصدون قطع الطّريق بالسّلاح أو بغيره.[٦]
شروط تطبيق حدّ الحَرابة
يُشتَرط في المُحارِب القاطع والمقطوع عليه عدد من الشّروط منها ما اتّفق عليه الفقهاء ومنها ما اختلفوا فيه، وهي كما يأتي:
شروط القاطع
- أن يكون عاقلاً بالغاً: فإن كان صبياً أو مجنوناً فلا عقوبة عليهما؛ لأن العقوبة لا تكون إلا على مُكَلّف.
- أن يكون ذكراً: وذلك في ظاهر الرِّواية عن أبي حنيفة، ولو كان بين القُطّاع امرأة لا يُقام الحد عليها في الرّواية المشهورة؛ لأن رُكن القطع (الخروج على المارّة على وجه المُحارَبة والمُغالبة) لا يتحقّق من النّساء عادَةً؛ لرِقَّةِ قُلوبِهن وضعْف بُنْيَتِهن، فلا يَكُنَّ من أهل الحرب. وقال الطحاويّ: النّساء والرّجال في قطع الطّريق سواء؛ لأن هذه عقوبة يستوي في وجوبها الذّكر والأنثى كسائر الحدود، ولم يُفَرّق الجمهور بين الرّجل والأنثى، فيُقام حدّ الحرابة على جميع المُكلَّفين.[٦]
شروط المقطوع عليه
- أن يكون مُسلماً أو ذِميّاً (أهل الأديان الأُخرى من البلاد الإسلاميّة): فإن كان حربيّاً مُستَأمناً (غير مسلم بينه وبين المسلمين مُعاهدة أو وثيقة أمان)، فلا عقوبة على القاطع؛ لأنّ عِصمة مال المُستأمَن ليست عصمةً مُطلَقة، وإنّما فيها شبهة الإباحة، فيُحتمل أنّ قاطع الطّريق هاجمه وهو يظنّ أنّه عدو وليس بهدف قطع الطّريق عليه.
- أن تكون مُلكَه أو حيازته لما نُهِبَ وسُرِق منه صحيحاً: بأن يكون مما يملكه أو أنّه أمانة عنده؛ فإن لم تكن كذلك وكان سارقاً له لم تجب العقوبة على قاطع الطّريق، لأن هنالك شُبهة وهي استعادة المال لأصحابه.[٦]
شروط القاطع والمقطوع عليه جميعاً
يُشترط ألا يكون في قطاع الطّريق ذو رَحِم مَحْرَم (بينهم قرابة مباشرة) من المقطوع عليهم، فإن كان أحدهم ذا رحم من المقطوع عليهم لا تَجب العقوبة على القِطاع؛ لأنّه يوجد بينهم قريب للمقطوع عليهم. والسّبب في منع العقوبة هو أنّه يكون عادة بين هذا القريب وبين المقطوع عليه إذن بالتصرّف بأملاك قريبه، لوجود الإذن بالتّناول عادة.[٦]
واختلف الحنفيّة مع بقية المذاهب في هذا الشّرط وفي اشتراط الذّكورة في القاطع، وفي اشتراك الصبّي أو المجنون مع القطّاع. فقال الحنفية: يُشترط كون القُطّاع كلهم أجانب (غير ذي قربى من المقطوع عليه) مُكلّفين ذكوراً، حتى إذا كان أحدهم قريباً من المقطوع عليهم أو صبيّاً أو مجنوناً لا تجب عليهم عقوبة قطع الطّريق عند أبي حنيفة ومحمد. وأما المرأة: فلا يتحقق منها قطع الطّريق لضعفها. وقال أبو يوسف: العبرة بالمُشاركة بالقطع بشكلٍ مباشر، فإذا باشرت المرأة القطع عوقِب الرّجل كما تَبيّن، ولا تُعاقب المرأة، فإن قتلت أحداً تُقتل قِصاصاً لكونها قاتلة لا لكونها شاركت في قطع الطّريق، فيجوز لولي القتيل العفو عمّن قتل قريبه، وإذا شارك الصبيّ أو المجنون بالقطع مُباشرةً لا يُعاقب أحدٌ منهما، وإن كانت قطع الطّريق من غيرهما فيعاقب العُقلاء البالغون، ولا يُعاقب الصّبي أو المجنون.[٦]
وقال المالكيّة والشافعيّة والحنابلة: لا تسقط العقوبة عن قُطّاع الطّرق إذا كان فيهم صبيّ أو مجنون أو قريبٌ للمقطوع عليه؛ لأنّ وجود هؤلاء شبهة تخصّ صاحبها فقط، فلم تسقط العقوبة عن الباقين، كما لو اشتركوا في وطء المرأة. وعلى هذا فلا عقوبة على الصبيّ والمجنون وإن قتل بنفسه وأخذ المال؛ لأنّهما ليسا من أهل التّكليف، ويضمن أهلهما ما أخذا من المال في أموالهما، وديّة قتيلهما على عاقلتهما، أي أقاربهما من العصبات (الأخوة، والآباء، والأخوات، وأبناء الأخوة، والأعمام، وأبناء الأعمام).[٦]
تطبيق حدّ الحَرابة
يُقام على المُحارِب إذا أُخِذَ (قُبِض عليه) قبل التّوبة حَد الحرابة، وهو القتل، أو الصّلب، أو قطع اليد والرّجل من خِلاف،[٧] أو النّفي والحبس، وذلك موكولٌ إلى اجتهاد الحاكم على ما يراه أردع له ولأمثاله. قال أبو حنيفة والشافعيّ: عقوبتها على التّرتيب الوارد في أعلاه، ولا يُقتَل ما لم يَقتُل، ولا يُصلَب ولا يُقطَع، فإن قَتَل ولم يأخذ مالاً قُتِل فقط ولم يُقطَع ولم يُصلَب، فإن أخذ المال ولم يَقتُل قُطِع فقط، وإن قَتَل وأخذ المال؛ قال أبو حنيفة: الإمام مُخيَّر إن شاء جمع القتل والقطع، وإن شاء جمع القطع والصّلب، ثم قُتِل بعد الصّلب، وقال الشافعيّ: يقتلهم خنقاً ثم يصلبهم.[٨]
سقوط حدّ الحَرابة
يسقط حدّ الحَرابة عن المُحاربين بالتّوبة قبل القدرة عليهم (القبض عليهم)، وذلك في شأن ما وجب عليهم حقّاً لله، وهي ثبوت عقوبة قُطّاع الطّريق عليهم من القتل، والصّلب، والقطع من خلاف، والنّفي – ولا يُعفى عنهم في حقّ البشر لأنّ ذلك حقٌ لا يجوز أن يُسقِطه الحاكم؛ بل يُسقِطه صاحبه إن شاء- وكل ذلك مَحَل اتِّفاقٍ بين أصحاب المذاهب الأربعة.[٩]
المراجع
- ↑ رواه المنذري، في الترغيب والترهيب، عن أبو هريرة، الصفحة أو الرقم: 3/244، إسناده صحيحٌ أو حسنٌ او ما قاربهما.
- ↑ أبو مالك كمال بن السيد سالم (2003)، صحيح فقه السنة، مصر: المكتبة التوقيفية، صفحة 139، جزء 4.
- ↑ سورة المائدة، آية: 33.
- ↑ سورة العنكبوت، آية: 29.
- ↑ محمد بن محمد المختار الشنقيطي، ” شرح زاد المستقنع”، موقع الشبكة الإسلامية، اطّلع عليه بتاريخ 28/10/2016.
- ^ أ ب ت ث ج ح وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته (الطبعة الرابعة)، سورية: دار الفكر، صفحة 5464، جزء 7.
- ↑ أي أن تُقطَع يَدُه اليمنى ورجله اليسرى أو العكس
- ↑ القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي (1999)، الإشراف على نكت مسائل الخلاف (الطبعة الأولى)، لبنان: دار ابن حزم، صفحة 850، جزء 2.
- ↑ علي بن محمد بن عبد الملك الكتامي الحميري (2004)، الإقناع في مسائل الإجماع (الطبعة الأولى)، مصر: الفاروق الحديثة للطباعة والنشر، صفحة 269، جزء 2.