النبوّة والأنبياء
من سنّة التفضيل في الكون أنْ اختار اللهُ -عزّ وجلّ- صفوةً من عباده من بني البشرِ ليكونوا أنبياء ورسلاً للنّاس، فقد قال الله تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)،[١] والأنبياءُ أشرفُ خلق الله تعالى، والأعلامُ التي يهتدي بها النّاس وأهل العقيدة على أنّ كلّ رسول نبيّ، وليس كلّ نبيّ رسول، والمسلم في صلب عقيدته الإيمان بالأنبياء والرّسل جميعاً، قال الله تعالى: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ)،[٢] وقد ذكر الله -عزّ وجلّ- في القرآن الكريم عدداً من أنبياء الله ورسله عليهم السّلام، ولكنّ بعضهم لم يُذكر لحِكمةٍ يعلمها الله تعالى، فقد قال: (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ)،[٣] ونبيّ الله زكريّا -عليه السّلام- هو أحدُ الأنبياء الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم، حيث جاء ذكره وسيرته في ثلاث سور قرآنية، هنّ: آل عمران، ومريم، والأنبياء، وكان ذلك في سبعة مواضع، فمن هو زكريّا عليه السّلام، وما أبرز أحداث سيرته، وكيف كان موته؟
وفاةُ زكريّا عليه السّلام
ورد عن بعض المؤرّخين كالطبريّ أنّ فساد بني إسرائيل المذكور في القرآن الكريم له ارتباط بقتل زكريّا ويحيى عليهما السّلام، والشاهد فيما نُقِل عنه أنّهما ماتا قتلاً، غير أنّه لم يردْ في صحة خبر قتلهما نص صحيح ثابت، مع أنّ قتل بني إسرائيل للأنبياء ورد في القرآن الكريم في أكثر من موضع، فقد قال الله عزّ وجلّ: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)،[٤] وكثير من المفسّرين يذكرون رواية قتل زكريّا ويحيى -عليهما السّلام- استدلالاً بهما عند تفسيير هذه الآيات، وذكر ابن كثير في كتاب البداية والنّهاية أكثر من رواية لمقتل زكريّا عليه السّلام، وقد جاءت بعض الروايات عن بعض الصّحابة والتابعين التي يبدو من ظاهرها أنّها قد أُخِذتْ من روايات أهل الكتاب، وقد ذكر ابن كثير أنّ بعض ملوك بني إسرائيل في مدينة دمشق أراد الزواج ممّن تحرّم عليه في شريعتهم، فنهاه يحيى -عليه السّلام- عن فعل ذلك، فلم ينته عمّا أراد، فاستنكحها لنفسه، وطلبتْ منه دم يحيى، فقتل يحيى إرضاءً لها.[٥]
وفي شأن مقتل نبي الله زكريّا وعلاقة ذلك بقتل ولده يحيى -عليهما السّلام- جاءت بعض الروايات؛ منها: أنّ زكريّا بعد سماعه بمقتل ولده يحيى خرج حتى دخل بستاناً عند بيت المقدس، فأرسل المَلِك في طلبه، وبينما هو في البستان نادته إحدى أشجاره أن يذهب إليها، فلمّا ذهب إليها انشقّت واختبأ في وسطها، وأخبر الشيطان أعوان المِلك بمكانه، وأحضر لهم جزءاً من ثوبه دليلاً على صدقه، فجاءوا إلى الشجرة التي اختبأ فيها نبي الله زكريّا وشقّوها نصفين بالمنشار؛ فمات زكريّا -عليه السّلام- وهو داخل الشّجرة، بينما ذكرت بعض الروايات أنّ إبليس وسوس إلى بعض الرّجال في مجالس بني إسرائيل بأنّ زكريّا -عليه السلام- أحبلَ مريم العذراء، بدليل أنّه يدخل عليها دون غيره، ثمّ لمّا جدّوا في طلبه خرج إلى الشّجرة، ثمّ حصل هناك ما جاء في الرّواية السابقة، والله تعالى أعلم.[٦]
سيرة النبيّ زكريّا
زخرت سيرة النبيّ زكريّا -عليه السّلام- بعدّة أحداث؛ منها:
- نسب النبيّ زكريّا وعمله: يُنسب زكريّا -عليه السّلام- إلى بني إسرائيل، واختُلِف في اسم أبيه بين حنّا ودان وأدن، ويصل نسبه إلى نبيّ الله سليمان بن داود، وزكريّا هو أبو النبيّ يحيى عليهما السّلام، وجاء عند المؤرّخين أنّه عاش في دمشق، وأنّه كان فيها عندما قُتِل ابنه يحيى،[٧] وكان يأكلُ من كسب يده؛ فقد عَمِل نجّاراً، وعُرِف عنه أنّه كان يمتهن النّجارة بيده.[٨]
- علاقة زكريّا بمريم: ورد عن الإمام القرطبيّ أنّ العلاقة التي تربط زكريّا -عليه السّلام- بمريم -عليها السّلام- كانت من جهة زواجه بخالتها؛ فزكريّا هو زوج خالة مريم، وفي قول آخر: أنّه زوج أختها، وعند القتبيّ: أنّ امرأة زكريّا -عليه السلّام- اسمها إيشاع بنت عمران، وبناء على هذا القول فإنّ يحيى ابن خالة عيسى عليه السّلام.[٩]
- دعاء زكريّا: عندما بلغ زكريّا -عليه السّلام- عمراً كبيراً حدثت معه عدّة أحداث، منها:
- بعد أنْ رأى زكريّا -عليه السّلام- نفسه وقد بلغ به العمُر مبلغاً كبيراً، واشتعل رأسه من كثره الشّيب، وتذكّر أنّ امرأته عاقرٌ ولم تنجب له مولوداً، فأحسّ بالخوف على اندثار الشّريعة وفساد النّاس، وأصابه الهمّ من أنْ يترك الدنيا دون وليّ يرثُ عنه الحِكمة التي وهبها الله -تعالى- له؛ فتوجّه إلى الله -سبحانه وتعالى- بالدّعاء بأنْ يرزقه الولد؛ ليرثُ عنه النّبوّة والشريعة، قال الله -عزّ وجلّ- في سورة مريم واصفاً المشهد: (قالَ رَبِّ إِنّي وَهَنَ العَظمُ مِنّي وَاشتَعَلَ الرَّأسُ شَيبًا وَلَم أَكُن بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا*وَإِنّي خِفتُ المَوالِيَ مِن وَرائي وَكانَتِ امرَأَتي عاقِرًا فَهَب لي مِن لَدُنكَ وَلِيًّا*يَرِثُني وَيَرِثُ مِن آلِ يَعقوبَ وَاجعَلهُ رَبِّ رَضِيًّا).[١٠][١١]
- إنّ الذي زاد من حماس زكريّا -عليه السّلام- ورجاءه بالله -تعالى- ذهابه ذات يوم إلى المعبد، فوجد مريم -عليها السّلام- معتكفة في محرابها، تناجي ربّها، ورأى عندها في المحراب ما شدّ انتباهه، حيث رأى بين يديها فاكهة الصيف في وقت الشتاء، وعندما سألها عن سرّ ذلك، أخبرته أنّ هذا رزق من الله بغير حساب، قال الله تعالى: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ).[١٢][١١]
- ولقد أثارت رؤية مريم -عليها السّلام- عند محرابها شجوناً كثيرة في نفس زكريّا عليه السّلام، وتعمّق إيمانه بالله -تعالى- بعد أنْ رأى عجائب قدرة الله -تعالى- مع مريم عليها السّلام؛ فدعا ربّه بأنْ يهبه الولد رغم غياب الأسباب الظاهرة؛ فهو طاعن في السّن، وزوجته عاقر، وتوجّه بقلب مخبتٍ إلى الله تعالى: (رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ)،[١٣] وفي سورة الأنبياء قال الله -تعالى- عن زكريّا عليه السّلام: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)،[١٤] ثمّ جاءت البِشارة الإلهيّة عن طريق الملائكة تُبشّر زكريّا بإجابة دعائه: (يا زَكَرِيّا إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسمُهُ يَحيى لَم نَجعَل لَهُ مِن قَبلُ سَمِيًّا)،[١٥] وكان هذا المشهد من حياة نبيّ الله زكريا الذي خلّده القرآن الكريم تأكيداً على أنّ قدرة الله -تعالى- لا تُقاس بالأسباب، ولا تفرضها القوانين، وإنّ أمر الله -تعالى- لا يحتاج إلى توفّر مُقدّمات ومتطلّبات.[١٦]
المراجع
- ↑ سورة البقرة، آية: 253.
- ↑ سورة البقرة، آية: 285.
- ↑ سورة النساء، آية: 164.
- ↑ سورة آل عمران، آية: 112.
- ↑ مركز الفتوى (17-7-2003)، “هل مات زكريا ويحيى حتفاً أم قتلاً”، www.islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 15-3-2018. بتصرّف.
- ↑ علي ابن الأثير (1997)، الكامل في الأثير (الطبعة الأولى)، بيروت: دار الكتاب العربي، صفحة 272-273، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ إسماعيل ابن كثير (1997)، البداية والنهاية، دار هجر، صفحة 394، جزء 2. بتصرّف.
- ↑ إسماعيل ابن كثير (1997)، البداية والنهاية (الطبعة الأولى)، دار هجر، صفحة 398، جزء 2. بتصرّف.
- ↑ مركز الفتوى (2-7-2003)، “ما هي صلة القرابة بين مريم وسيدنا زكريا؟”، www.islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 14-3-2018. بتصرّف.
- ↑ سورة مريم. آية: 4-6.
- ^ أ ب “قصة زكريا عليه السلام”، www.islamqa.info، 9-6-2011، اطّلع عليه بتاريخ 14-3-2018. بتصرّف.
- ↑ سورة آل عمران، آية: 37.
- ↑ سورة آل عمران، آية: 38.
- ↑ سورة الأنبياء، آية: 89.
- ↑ سورة مريم، آية: 7.
- ↑ “قصة زكريا عليه السلام”، www.islamweb.net، 9-6-2011، اطّلع عليه بتاريخ 14-3-2018. بتصرّف.