محتويات
حياة القبر
القبر هو أولى منازل الآخرة، حيث إنَّ الإنسان فيه يُبشَّر بمكانه في الجنة أو منزله من النار؛ فإن كان العبد مُؤمناً لقي في قبره الراحة والفسحة والسّعادة، وإن كان كافراً عاصياً فاسقاً لقي نتيجة بعده عن الله في قبره وتكذيبه بما أرسله الله وجاء به الأنبياء، وإن كان المسلم الذي دخل القبر قد اقترف ذنوباً يسيرةً فإن له في هذه الحالة مُعاملةً أخرى، وكلُّ ذلك سيجري بيانه خلال هذه المقالة.
تبدأ حياة الميت الثانية بعد دخوله القبر، فلا تنتهي الحياة بموت الأنسان في حقيقة الأمر، بل إنّه ينتقل من حكم عن الحياة الدنيا بطريق الموت إلى الحياة الآخرة التي أولها القبر، والقبر ليس إلا طريق عبورٍ بين الدنيا والآخرة، فإن جاء أمر الله وقامت الساعة، فحينها ينتقل أهل القبور إلى مرحلةٍ أخرى هي مرحلة العرض والحساب، وتوزيع الجوائز والمنازل بين الجنة والنار.
حياة الميت
جاءت العديد من النصوص القرآنيّة في إثبات ما يمرُّ به العبد بعد دخوله القبر من مراحل بين السؤال والحساب والنعيم والعذاب، فمن كان في حياته قريباً من الله -سبحانه وتعالى- مُتعلّقاً فيه، مرّت عليه تلك المراحل سلسةً يسيرةً، ومن كان فيها غافلاً عن الله عاصياً له مُطيعاً لهواه ورغباته فإنّه سيلقى أقسى أنواع العذاب والحساب والسؤال من قِبَل ملائكة الله، وفيما يأتي بيان بعض النصوص التي تُثبت شيئاً ممّا يمرُّ به الميت في القبر حسب ترتيبها المنطقي:[١]
- من آمن بالله حق الإيمان فإنه سيدخل قبره آمناً مُطمئناً، فإذا ما سأله الملكان أجابهما بثباتٍ وسكينةٍ واطمئنان، وذلك لما كان منه من الإيمان والتقوى والعمل الصالح وحسن الاستعداد للآخرة، قال الله تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ).[٢]
- إذا أُنزِل الميّت إلى القبر ثم انصرف عنه أهله أتاه ملكان مبعوثات من الله -سبحانه وتعالى- ليسألاه بعض الأسئلة، وبناءً على إجابته على أسئلتهم يكون مصيره في القبر الذي سيوصله إلى مصيره المحتوم في الآخرة، فإذا أتى الملكان للميت بعد انصراف الناس عنه أقعداه في موضعه في القبر ثم سألاه عن ربه من هو؛ فإن كان مؤمناً أجاب بثباتٍ وثقة: ربي الله، فيسألانه عن نبيه، فيجيب: نبيّي محمد، فيسألانه عن دينه، فيقول: ديني الإسلام، حتى إذا انتهيا من الأسئلة رأى منزله من الجنة جزاء ما كان منه من الصلاح والتقوى، أما الكافر فإنه يُجيب بعد كل سؤال من تلك الأسئلة بقوله: هاه هاه لا أدري، فيُرى مقعده ومكانه من النار جزاء اتّباعه لهواه وكفره بما جاء به الله على لسان أنبيائه، ويُثبت ذلك ما جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنّ رسولَ اللهِ -عليه الصّلاة والسّلام- قال: (إنّ العبدَ إذا وُضِعَ في قَبرِه، وتولى عنه أصحابَه، وإنه ليسمعُ قَرْعَ نعالِهم، أتاه ملكانِ، فَيُقعَدانِه فيقولانِ: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجلِ، لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، فأما المؤمنُ فيقولُ: أشهدُ أنه عبدُ اللهِ ورسولُه، فَيُقالُ له: انظرْ إلى مقعدِكَ من النارِ، قد أبدلك اللهُ به مقعدًا من الجنةِ، فيراهما جميعًا. قال قَتادَةُ وذكر لنا: أنه يُفْسحُ في قبرِه، ثم رجع إلى حديثِ أنسٍ، قال: وأما المنافقُ والكافرُ فَيُقالُ له: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجلِ؟ فيقولُ: لا أدري، كنتُ أقولُ ما يقولُ الناسُ، فَيُقالُ: لا دَريتَ ولا تَليتَ، ويُضْرَبُ بِمَطارِقَ من حديدٍ ضربةً، فيصيحُ صيحةً، يَسمعُها من يليِه غيرَ الثقلين).[٣]
- بعد أن ينصرف الملكان عن الميت بعد سؤاله ويرى مكانه في الجنة أو النار تبدأ حياة القبر؛ فإن كان العبد مُؤمناً وُسِّع له في قبره ورأى من مظاهر النعيم واللذة ما يجعله يتمنّى قرب قيام الساعة لينتقل إلى النعيم الأكبر في الجنة، أما الكافر والفاسق فإنه وبعد سؤال الملكين له وعرض منزله في النار يتمنّى ألا تقوم الساعة حتى لا يدخل النار، فيضيق عليه قبره ويشعر بالعذاب الذي يأتيه من كل مكان، ومن أشد العذاب أنه يرى مقعده من النار في الصباح والمساء، قال تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا).[٤]
خلاف العلماء في ردِّ الروح للميت في قبره
اختلف العلماء في مسألة سؤال الملكين للميت في قبره، هل أنَّ سؤالهما يقع على الروح أم على البدن أم عليهما معاً، وبيان ما ذهبوا إليه فيما يأتي:[٥]
- يرى جمهور علماء السُّنة أنّ الروح تُرَدُّ إلى جسد الميت بعد أن يُدخَل القبر، أو حتى بعض الجسد في حالة ما إذا كان الجسد قد لحق شيئاً منه البتر أو الحرق، فلا يمنع من ذلك كون جسم الميت قد تمزَّق إلى أشلاء، أو احترق بكامله؛ لأنّ اللّه قادر على أن يعيد الحياة إلى جسده ولو لجزءٍ بسيطٍ منه، ويقع على الجزء الذي يبقى من الجسد سؤال الملكين له في قبره.
- مذهب الإمام أبي حنيفة والغزاليّ -رحمهما الله- في هذه المسألة هو التوقّف، لكنّهم أقرّوا أنّ الميت في قبره يشعر ببعض حياة، فيتنعَّم إن كان تقيّاً، ويُعذّب إن كان غير ذلك، ويتلذّذ بالملذّات التي تأتيه ثواباً على ما قدَّم من صالح العمل، أما مسألة عودة الروح إلى الجسد عند سؤال الملكين وبعدها فهي عندهم غير مُستقرّةٍ؛ فيمكن أن تعود إلى جسده إذا دخل القبر، ويمكن أن يُؤخّر الله ذلك إلى يوم القيامة، والله وحده العليم بذلك.
- يرى الإمام ابن جرير الطبريّ وجماعةٌ من العلماء أنَّ سؤال الملكين للميت في قبره إنّما يقع على جسده فقط، وأنّ الله سبحانه وتعالى يخلُق فيه إدراكاً وسمعاً وقدرةً على الحوار والإجابة، ويجعله يتألّم إذا ما استحقّ العذاب ولو لبرهة، كما يشعر بالنّعيم ويتلذّذ به إذا كان من أهل التقوى والصّلاح.
- ذهب ابن هُبيرة وغيره إلى أنّ سؤال الملكين للميت في قبره إنمّا يقع على روحه فقط ولا يقع على جسده، وذلك يقتضي إنكارهم أنّ روح الميت تعود لجسده بعد الدفن وعند سؤال الملكين له.
العذاب والنعيم للميت في قبره
نتج عن اختلاف العلماء في مسألة ردِّ الروح للميت في قبره مسألةٌ شديدة الحساسيّة هي ما يتعلّق بتلذّذ الميت في قبره بالنعيم وإحساسه بالعذاب، وهل يقع العذاب على الروح فقط أم على الجسد فقط، أم على كليهما؟ وبيان خلافهم وأقوالهم فيما يأتي:[٥]
- ذهب الغزالي وابن هُبيرة إلى القول بأنّ النعيم والعذاب في القبر إنّما يقع على روح الميت وحدها، وأنّ جسده لا يشعر بذلك العذاب أو النعيم إطلاقاً.
- يرى جمهور العلماء من أهل السنّة والجماعة والأصوليّين والفقهاء وعلماء العقيدة من المُتكلّمين وغيرهم أنّ العذاب والنعيم إنّما يقع على روح الميت وجسده معاً.
- قال النّووي: (النّعيم والعذاب للجسد بعينه أو بعضه بعد إعادة الروح إليه أو إلى جزء منه)، وقال ابن تيميّة:( العذاب والنّعيم على النّفس والبدن جميعاً باتّفاق أهل السنّة والجماعة، تُنَعّم النّفس وتُعذَّب مُنفردةً عن البدن، وتُعذَّب مُتّصلةً بالبدن، والبدن مُتّصل بها، فيكون النّعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مُجتمعين، كما يكون للروح منفردةً عن البدن).
- يرى الإمام ابن جريرٍ الطبري أنّ الميّت يُعذَّب في قبره، وأنّ هذا العذاب أو النعيم الذي يأتيه إنّما هو لجسده فقط، فلا تُردّ الروح إليه، لكنّه يُحسُّ بالألم والنعيم كما لو كان حيّاً.
المراجع
- ↑ ابن باز، “هل إحياء الأموات في القبر هو مثل إحياءهم في الدنيا”، موقع الإمام ابن باز، اطّلع عليه بتاريخ 20-3-2017.
- ↑ سورة إبراهيم، آية: 27.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم: 1374، صحيح.
- ↑ سورة غافر، آية: 46.
- ^ أ ب مجموعة من العلماء (1425)، الموسوعة الفقهية الكويتية (الطبعة الرابعة)، الكويت: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، صفحة 388-400، جزء 15. بتصرّف.