محتويات
القضاء
صلاح المجتمع والدولة بشكل عام مرتبط بصلاح قضائها، حيث يلعب القضاء دوراً مهمّاً في الدولة، وهو يُعدّ من السلطات الثلاث التي تقوم عليها كل دولة، ويُعبّر عنه بالسلطة القضائية، بحيث يُشكّل مع السلطتين التنفيذية والتشريعية، ذلك التكامل الذي يؤدي إلى سير الدولة وفق القانون، حيث تسنّ السلطة التشريعية (مجلس الأمة) القوانين، ثم تأتي السلطة القضائية (المجلس القضائي) وتطبّق القانون، ثم تنفّذه السلطة التنفيذية (مجلس رئاسة الوزراء).
إذاً دور القاضي هو تطبيق القانون، ويتم ذلك وفق أسس، ومعايير محددة، وفي مكان معين، وعلى الأشخاص الذين تنطبق عليهم نصوص القانون. والقضاء هو عبارة عن مهنة؛ فالقاضي يتقاضى راتبه آخر كل شهر، ولكن هذه المهنة، هي مهنة من نوع خاص، وتتطلّب شروطاً للعمل فيها، فكيف تصبح قاضيّاّ؟
كيفيّة العمل في القضاء
يجهل الكثير منّا كيفية العمل في السلك القضائي، ويتساءل كيف يمكن للشخص أن يصبح قاضيّاً؟ نجيب أنّ مهنة القضاء تقيّدها عدّة شروط تضعها الدولة، ذلك أنّ مهنة القضاء هي وظيفة حكومية تابعة للدولة، فالذي يرغب بالعمل كقاضٍ يجب أن تتحقق فيه عدة شروط، وهذا ما سنفصله لاحقاً، ولكن قبل ذلك لا بدّ للشخص من معرفة القواعد والسلوكيات التي ستحكم القاضي وتقيّده طيلة فترة حياته المهنية، وذلك كالتالي:
القواعد والسلوكيات التي تحكم القاضي
قد يمتاز القاضي بعدّة أمور كالحصانة القضائية، والراتب العالي، والسلطة المخوّلة إليه، إلّا أنّ هناك قواعد وسلوكيات تحكمه طيلة حياته المهنية، وتوجب ذكر هذه القواعد والحديث عن بعضها لما لها تأثير على حياة القاضي الشخصية، حيث إنّها ستقيد القاضي وتكبل حياته الشخصية، ذلك أنّ أيّ تصرف منه قد يثير الشبهة لخطورة منصبه وحساسيته، ومن هذه القواعد ما يلي:
- لا يجوز للقاضي أن يعمل في أيّة وظيفة تجارية، ولا أن يجمع مع وظيفة القضاء أيّة وظيفة أخرى، باستثناء الوظيفية الأكاديمية كالتدريس، وعليه أن يأخذ الإذن من المجلس القضائي.
- لا يجوز له التوسّط لدى أي قاضٍ آخر في قضية منظورة لديه.
- عليه أن لا يقبل أيّ تدخل من أي سلطة أخرى في عمله، مهما كانت الأسباب.
- لا يجوز له الانتماء إلى أي حزب، أو الانتماء إلى أيّ جمعية سياسية.
- عليه الالتزام بعلنية المحاكمة، إلا إن قرر أن تكون سراً مع ذكر أسباب السرية.
- يجب أن يحاكم وفق القانون، والأوراق الموجودة بين يديه، ولا يحكم وفق معلوماته الشخصية.
- يُمنع على القاضي وعائلته قبول أيّ هدية أو مكافأة من أي أحد، لأنّه لولا طبيعة عمله لما قُدمت له تلك العطايا.
- يحظر على القاضي إفشاء أسرار الدعاوى التي ينظرها قبل صدور الحكم، وكذلك يحظر عليه أن يُبدي رأيه بتلك الدعاوى التي نظرها، أو التي نظرها زملاؤه، إلا إن كان ذلك لسبب أكاديمي للتعليم والبحث العلمي.
- يجب على القاضي أن يحدّ من المشاركة بالمناسبات الاجتماعية، لأنّها قد تجلب الشبهة إليه، وقد تؤثر على عمله القضائي.
- عدم استغلال منصب القضاء للحصول على مصالح شخصية له، أو لأيّ فرد من أفراد أسرته.
- عليه أن يقيّد علاقته مع المحامين، أو أيّ شخص آخر يرتبط بالمحاكم، وذلك لتجنيب نفسه شبهة التحيّز وعدم الحياد.
شروط العمل بالقضاء
لكل دولة في العالم شروط محددة للتعيين في القضاء وذلك لحساسية هذه المهنة وخطورتها، والشروط التي سنذكرها الآن هي الشروط التي تضعها غالبية الدول بشكل عام، ثمّ الحديث بتفصيل أكثر عن شرط الخبرة العملية كمحامٍ، وشرط الحصول على دبلوم المعهد القضائي، الذين قد تضعهما بعض الدول، وذلك كالتالي:
الشروط العامة
- أن يحمل جنسية تلك الدولة، ولا يتمتع بحماية أجنبية، ولكن هناك حالات استثنائية قد تستعين فيها الدولة بقضاة من دول أخرى، وهم القضاة المعارين للعمل خارج بلادهم.
- أن يصل إلى سن معين، فبعض الدول تشترط أن يطبّق الشخص ثلاثين سنة من عمره، وبعضهم يشترط العمر أقل من ذلك، وبعضهم أكثر.
- أن يكون خالياً من الأمراض.
- أن يكون غير محكوم عليه، ولا يكون من أصحاب السوابق، وغير محكوم عليه بأمور مخلّة بالشرف، وغيرها.
- حسن السمعة، والسيرة، والسلوك.
- أن يكون حاصلاً على الشهادة الجامعية الأولى في الحقوق.
- أن يكون لديه (خبرة عملية كمحامٍ)؛ بحيث يكون قد عمل محامياً أستاذاً لمدة معينة تصل إلى عشر سنوات فأكثر، وهذا الشرط سنشرحه بالتفصيل لاحقاً، أو أن يكون (حاصلاً على دبلوم المعهد القضائي)، وهذا الشرط سنشرحه بالتفصيل لاحقاً.
- اجتياز الامتحان التحريري، والأسئلة تكون متعلقة بتخصص الحقوق، والأسئلة تكون متعمقة وغير سهلة، وتحتاج أن يكون الشخص متمكناً من التخصص، وملماً بجميع مواده وأقسامه.
- اجتياز المقابلة الشخصية؛ وهنا سيقابل الشخص لجنة مكونة من قضاة وأكاديميين، لذا عليه أن يتجهّز جيداً لهذه المقابلة ويراعي عدة أمور: وهي مظهره الخارجي، وطريقة حديثه، وطريقة جلوسه، والاستعداد للأسئلة المفاجئة التي قد يطرحها أيّ من أعضاء لجنة المقابلة، فهي لا تقل أهمية من الامتحان التحريري، بل قد تكون أهم من الامتحان التحريري؛ فشخصية القاضي لن تتضح إلا مع المقابلة الشخصية.
شرط الخبرة العملية كمحامٍ
المحامي هو أدرى الناس بعمل المحاكم، خاصة إن تجاوز العشر سنوات في ممارستها، فهو بذلك يكون له باع طويل في المهنة، وهو أقدر الناس على امتهان مهنة القضاء، لأنّه بالنتيجة رجل قانون، وليس ببعيد عن الموضوع، وسنوات خبرته تلك دليل على درايته العملية بالمهنة، فالمسألة بالنسبة له مجرد انتقال من مكان إلى آخر، فأخلاقيات المهنتين واحدة، وهدفهما واحد، إذاً فلن يكون هناك شخص أقدر ولا أفضل من العمل كقاضٍ مثل المحامي، وعند عمله كقاضٍ يجب عليه أن يترك مهاناة المحاماة، والتفرّغ لعمل القضاء.
شرط الحصول على دبلوم المعهد القضائي
إنّ الحصول على دبلوم المعهد القضائي يتطلب الانتساب للمعهد القضائي، فببعض الدول تنشىء لديها معهداً قضائيّاً لتدريب الأشخاص على مهنة القضاء، ويُشترط للالتحاق بهذا المعهد أن تتوافر لدى الشخص جميع الشروط العامة التي تحدثنا عنها، وأن تنطبق عليه الحالات الثلاثة التالية:
- أن يكون قد عمل كاتباً لدى إحدى محاكم الدولة لمدة معينة سنتين أو أكثر.
- أن يكون قد عمل محامياً أستاذاً لمدة معينة، ولكن هذه المدة تكون أقلّ من المدة التي يستطيع فيها العمل كقاضٍ دون الالتحاق بالمعهد القضائي.
- أن يكون من أوائل كلية الحقوق في الجامعة.
ثم بعد تحقّق تلك الشروط وتلك الحالات، ينتسب إلى المعهد القضائي ويُصبح طالباً فيه، ويبقى على مقاعد الدراسة لمدة سنتين أو أكثر حسب قانون كل دولة، وبعد أن يُنهي الدراسة النظرية يتم تدريبه للعمل في المحاكم، للتعرّف على المحاكم وطبيعتها عملها، وطبيعة عمل القاضي، وتعتبر فترة التدريب هذه جزء من الدراسة، وفي النهاية وبعد تخرجه يحصل على دبلوم المعهد القضائي، الذي يخولّه للعمل كقاضٍ.
بعد العمل بوظيفة القضاء
بعد تحقّق جميع الشروط العامة والخاصة، يتم تعيين الشخص كقاضٍ، حيث يقسم قبل مباشرته الوظيفة بالله العظيم أن يكون مخلصاً لوطنه ويحكم بين الناس بالعدل، وأن يحترم القوانين ويؤدي وظيفته بكل أمانة وإخلاص، وأن يلتزم بسلوك القاضي الصادق الشريف، وبعدها يباشر عمله، ويكون تحت فترة التجربة لمدة سنتين أو أكثر حيث يستطيع المجلس القضائي إنهاء خدمته إذا تبين لهم أنّه غير كفؤ، وغير لائق شخصياً، أو خلقياً وفق المعايير التي يراها المجلس، وبعدها يتم تثبيته، وأنّه وبمجرد مباشرة القاضي عمله، تطبق عليه قواعد السلوك التي تحدثنا عنها سبق، ويكون ذلك تحت طائلة المسؤولية وإنهاء خدماته.
ونختم كلامنا بوصية عمر بن الخطاب لقاضي الكوفة أبي موسى الأشعري، حيث قال فيها: “بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد؛ فإنّ القضاء فريضةٌ محكمةٌ، وسنّةٌ متبعةٌ، فافهم إذا أُدلي إليك، فإنّه لا ينفع تَكلُّم بحقٍ لا نفاذَ له. آسِ بين الناس في مجلسك ووجهك؛ حتى لا يطمع شريف في حَيفك، ولا يخاف ضعيف من جَورك، والبيِّنة على من ادَّعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائزٌ بين المسلمين، إلا صُلحًا حرَّم حلالاً أو أحلَّ حَرامًا. ولا يمنعك قضاءٌ قضيتَه بالأمس فراجعتَ فيه نفسَك وهُديت فيه لرشدك أن ترجع عنه؛ فإنّ الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهمَ الفهمَ عندما يتلجلج في صدرك، مما لم يبلُغْك في كتاب الله ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم. اعرِف الأمثال والأشباه، وقِسْ الأمور عند ذلك، ثم اعمد إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق فيما ترى، واجعل للمدعي حقًا غائبًا أو بينةً أمدًا ينتهي إليه، فإن أحضر بينته أخذت له بحقه، وإلا وجهت عليه القضاء، فإن ذلك أنفى للشك، وأجلى للعمى، وأبلغ في العذر. المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلودًا في حدٍّ أو مجربًا عليه شهادة زور، أو ظنينًا في ولاء أو قرابة، فإن الله قد تولى منكم السرائر ودرأَ عنكم بالشبهات، ثم إياك والقلقَ والضجرَ والتأذيَ بالناس والتنكرَ للخصوم في مواطن الحق التي يوجب الله بها الأجر، ويحسن بها الذخر، فإنّه من يُخلص نيته فيما بينه وبين الله تبارك وتعالى- ولو على نفسه- يكفه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزيَّن للناس بما يعلم الله خلافَه منه هتكَ الله ستره، وأبدى فعله”.