'); }
خطبة الوداع
حجة الوداع، كانت أعظم حجة في التاريخ، في السنة العاشرة من الهجرة، وقد كان المسلمون مع رسول الله لا يحصَون لكثرة عددهم، فكانوا من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله مدّ البصر، ولقد سُمّيت بذلك لأنّ المُراد هو وداع النبي صلى الله عليه وسلم حتى وقعت وفاته صلى الله عليه وسلم بعدها بسنةٍ واحدةٍ أي في السنة الحادية عشر للهجرة، ولقد تضمنت الخطبة قواعد هامة لصلاح المجتمع سنفصّلها في هذا المقال.
نص الخطبة
(إنَّ دماءَكم وأموالَم حرامٌ عليكم . كحرمةِ يومِكم هذا . في شهرِكم هذا . في بلدِكم هذا . ألا كلُّ شيءٍ من أمرِ الجاهلية ِتحت قدميَّ موضوعٌ . ودماءُ الجاهليةِ موضوعةٌ . وإنَّ أولَ دمٍ أضعُ من دمائِنا دمُ ابن ِربيعةَ بنِ الحارثِ . كان مُسترضَعًا في بني سعدٍ فقتلَتْه هُذيلٌ . وربا الجاهليةِ موضوعٌ . وأولُ ربًا أضعُ رِبانا . ربا عباسٍ بنِ عبدِالمطلبِ . فإنه موضوعٌ كلُّه . فاتقوا اللهَ في النِّساءِ . فإنكم أخذتموهن بأمانِ اللهِ . واستحللتُم فروجهنَّ بكلمةِ اللهِ . ولكم عليهنَّ أن لا يُوطئنَ فُرُشَكم أحدًا تكرهونه . فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غيرَ مُبَرِّحٍ . ولهنَّ عليكم رزقُهن وكسوتُهنَّ بالمعروفِ . وقد تركتُ فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتُم به . كتابَ اللهِ . وأنتم تُسألون عني . فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغتَ وأدَّيتَ ونصحتَ . فقال بإصبعِه السبَّابةِ ، يرفعُها إلى السماءِ وينكتُها إلى الناسِ اللهمَّ ! اشهدْ اللهمَّ ! اشهد ثلاث مراتٍ)[صحيح مسلم].
'); }
تحليل الخطبة
استهلّ النبيُّ – صلّى الله عليه وسلم – خطبته بتحريم الدّماء والأموال، وشبّه شدّة هذا التحريم بحُرمة يوم عرفة، من شهر ذي الحجة، في البلد الحرام مكة، حيث إنّ لمكة المكرّمة حرمةٌ عظيمةٌ فلا يُسفك فيها دمٌ، ولا يُقتل فيها طيرٌ، ولا تُقطع أشجارها، ولا تُلتقط لقيطتها إلّا لمُنشدٍ أي باحثٍ عن صاحب هذه اللقيطة أو الشيء المفقود، أمّا عن حُرمة شهر ذي الحجَّة؛ فقد جعَل الله تبارك وتعالى عدَّة الشهور اثنَا عشر شهرًا، وجعل منها أربعةً حُرُم، ثلاثٌ تأتي سرداً أي متتاليةً وهي: ذو القِعدة، وذو الحَجَّة، ومُحرَّم، وشهرٌ واحدٌ يأتي منفرداً ألا وهو رجب، والشاهد في كُل ذلك تعظيم شأن القتل وسلب الأموال، فلا يحلُّ دم امرىء مُسلمٍ إلّا بإحدى ثلاثة أمور: الثيب الزاني، أي المتزوج الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة، أي المُرتدّ عن الإسلام ما لم يتب، والقاتل، مع التنبيه بضرورة أن يتّخذ الحاكم المُسلم العقوبة في حقّ هؤلاء، كي لاينقلب المُجتمع كشريعة الغاب، كُلٌ يأخذ حقه بيده، أمّا في ما يتعلّق بالأموال، فلا يأخذ أحدٌ مالاً إلّا حلالاً وبحقِّ الله، فسوف يُسأل صاحب المال بين يدي الله من أين اكتسب هذا المال؟ وفيم أنفقه.
أبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم كُلّ أمرٍ كان في الجاهلية، فالإسلام يَجُبُّ ماقبله، فلا كِبرٌ في الإسلام، ولا بطَر، ولا تفاخرٌ في الأنساب والأحساب، ودماءُ الجاهلية موضوعةٌ، وقد بدأ بنفسه حيث وضع دم ابن ربيعة، وأبطل ربا العباس بن عبد المُطّلب، وإنّما خصّ الربا لما له من شديد عقوبة، حيث اللعنة والطرد من رحمة الله، ثمّ انتقل الخطاب إلى حُسن معاملة النساء، وخاصّة الزوجات حيث على الزوج أن يتّقي الله في معاملتهه معها دون ظلمٍ، أو جور، أو إنقاصٍ في المأكل والمشرب والمَلبس، وأمر بغضّ البصر لصون المجتمع من الفواحش، وقد نبهت الخطبة على فعلٍ مشين وهو أن تسمح المرأة لمن يكره الرجل أن يُدخلهم إلى بيته بذلك ، فهذا من حقّ الرجل عليها، وعليها أن تطيعه في ذلك، فلا يدخل بيته إلّا من يُحب، وإن خالفت ذلك فعليه أن يُقوّمها ويلومها بالضرب غير المُبرّح، وقد أشار العلماء بأنّ الضرب هنا يكون بعود السواك مثلاً وذلك للفت انتباهها إلى فعلتها وليس بهدف الضرب على مثل هذا الفعل.
بيّنت الخطبة أنّ النجاة الحقيقية تكون بالاعتصام بكتاب الله والسنَّة الشريفة؛ فمن أراد الثبات فعليه أن يتمسَّك بهما، ففيهما سعادة الدنيا والآخرة، ولم تدع السنة والقرآن خيراً إلّا وأمرا به، أمّا ما كان فيه شرٌ فقد نهيا عنه، وفي خاتمة الخطبة برّأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم نفسه بعدما بيَّن للناس هذه الأمور الهامّة باعتبارها دستوراً صالحاً لكلّ الأوقات والأزمان حتّى قيام الساعة، قائلاً ((اللهم اشهَد، اللهم اشهَد)) بأنّي قد أدّيت الأمانة، ونصحت الأمة.