جديد حكم ومواعظ عن الموت

'); }

إنّ الموت هو انتهاء أجل الإنسان، وانتقاله من الحياة الدّنيا إلى الآخرة، والموت مقدّر ومكتوب على الجميع، فلا مفرّ منه، فهو لا يعرف كبيراً ولا صغيراً، وهو صعب على الأحياء، إذ إنّهم يفقدون أحبّتهم دون سابق إنذار، وفي هذا المقال سنذكر حكماً ومواعظاً عن الموت.

حكم ومواعظ عن الموت

'); }

وقد بَلونا العيشَ أطواره … فما وجدنا فيه غيرَ الشقاءِ.

ويستقبحونَ القتلَ والقتلُ راحةٌ … وأتعبُ ميتٍ من يموتُ بداءِ.

في كل يوم لنا مَيْتٌ نشيعهُ … ننسى بمصرعهِ آثارَ مَوْتانا.

ألا يابنَ الذين فَنُوا وبادُوا … أما واللّهِ ما بادوا لتبقى.

قدمْ لنفسِكَ قبل الموتِ في مَهَلٍ … فإِن حظكَ بعد الموتِ منقطعُ.

ابك على خطيئتك

لو تفكّرت النّفوس فيما بين يديها، وتذكّرت حسابها فيما لها وعليها، لبعث حزنها بريد دمها إليها، أما يحق البكاء لمن طال عصيانه! نهاره في المعاصي، وقد طال خسرانه، وليله في الخطايا، فقد خفّ ميزانه، وبين يديه الموت الشّديد، فيه من العذاب ألوانه. روى ابن عمر رضي الله عنهما قال:” استقبل رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – الحجر فاستلمه، ثمّ وضع شفتيه عليه يبكي طويلاً، فالتفت، فإذا هو بعمر يبكي، فقال: يا عمر ههنا تسكب العبرات “.

وقال يزيد الرقاشي:” إنّ لله ملائكةً حول العرش، تجري أعينهم مثل الأنهار إلى يوم القيامة: يميدون كأنّما تنفضهم الرّيح من خشية الله، فيقول لهم الرّب عزّ وجل: يا ملائكتي، ما الذي يخيفكم وأنتم عبيدي: فيقولون: يا ربّنا لو أنّ أهل الأرض اطلعوا من عزّتك وعظمتك على ما اطلعنا، ما ساغوا طعاماً ولا شرباً، ولا انبسطوا في شربهم، ولخرجوا في الصّحاري يخورون كما تخور البقر “.

بكيت على الذنوب لعظم جرمي

وحقّ لمن عصى مرّ البكاء

فلو أنّ البكاء يردّ همّي

لأسعدت الدّموع مع الدّماء

قال وهيب بن الورد:” لمّا عاتب الله نوحاً أنزل عليه ” إنّي أعظك أن تكون من الجاهلين “، فبكى ثلاثمائة عام، حتّى صار تحت أعينه أمثال الجداول من البكاء “.

أنوح على نفسي وأبكي خطيئةً

تقود خطايا أثقلت منّي الظهرا

فيا لذةً كانت قليل بقاؤها

ويا حسرةً دامت ولم تبق لي عذرا

وقال السدّي: بكى داود حتى نبت العشب من دموعه، فلمّا رماه سهم القدر جعل يتخبّط في دماء تفريطه، ولسان اعتذاره ينادي: اغفر لي، فأجابه: للخطائين، فصار يقول: اغفر للخطائين “. قال ثابت البناني:” حشى داود سبعة أفرش بالرّماد، ثمّ بكى حتّى أنفذتها دموعه”.

تصاعد من صدري الغرام لمقلتي

فغالبني شوقي بفيض المدامع

وإنّ في ظلام الليل قمريّةً إذا

بكيت بكت في الدّوح طول المدامع.

قال مجاهد:” سأل داود ربّه أن يجعل خطيئته في كفّه، فكان لا يتناول طعاماً ولا شراباً إلا أبصر خطيئته فبكى، وربما أتى بالقدح ثلثاه، فمدّ يده وتناوله، فينظر إلى خطيئته، ولا يضعه على شفتيه حتى يفيض من دموعه “. وقال بعض أصحاب فتح:” رأيته ودموعه خالطها صفرة، فقلت: على ماذا بكيت الدّم؟ قال: بكيت الدّموع على تخلفي عن واجب حقّ الله، والدّم خوفاً أن لا أقبل، قال: فرأيته في المنام، فقلت: ما صنع الله بك؟ قال: غفر لي، قلت: فدموعك! قال: قرّبتني، وقال: يا فتح على ماذا بكيت الدّموع؟ قلت: يا ربّ على تخلفي عن واجب حقّك، قال: فالدّم؟ قلت: بكيت على دموعي خوفاً أن لا تصبح لي، قال: يا فتح، ما أردت بهذا كله، وعزّتي وجلالي لقد صعد إلى حافظاك أربعين سنةً بصحيفتك ما فيها خطيئة “.

أجارتنا بالغدر والرّكب متهم

أيعلم خال كيف بات المتيّم

رحلتم وعمر الليل فينا وفيكم

سواءً ولكن ساهرات ونوم

تناءيتم من ظاعنين وخلفوا

قلوباً أبت أن تعرف الصّبر عنهم

ولما جلى التّوديع عمّا حذرته

ولا زال نظرةً تتغنم

بكيت على الوادي فحرمت ماؤه

وكيف يحلّ الماء أكثره دم

يا من معاصيه أكثر من أن تحصى، يا من رضي أن يطرد ويقصى، يا دائم الزّلل، وكم ينهى ويوصى، يا جهولاً بقدرنا ومثلنا لا يعصى، إن كان قد أصابك داء داود، فنح نوح نوح، تحيا بحياة يحيى.

ويقول الحسن بن عدقة:” رأيت يزيد بن هارون بواسط من أحسن النّاس عينين، ثمّ رأيته بعد ذلك مكفوف البصر، فقلت له: ما فعلت العينان الجميلتان؟ قال: ذهب بهما بكاء الأسحار، يا هذا لو علمت ما يفوتك في السّحر ما حملك النّوم، تقدم حينئذ قوافل السّهر على قلوب الذّاكرين، وتحط رواحل المغفرة على رباع المستغفرين، من لم يذق حلاوة شراب السّحر لم يبلغ عرفانه بالخير، من لم يتفكّر في عمره كيف انقرض لم يبلغ من الحزن الغرض “.

قيل لعطاء السليمي:” ما تشتهي؟ قال: أشتهي أن أبكي حتّى لا أقدر أن أبكي، وكان يبكي الليل والنّهار، وكانت دموعه الدّهر سائلةً على وجه “. وبكى مالك بن دينار حتّى سود طريق الدّموع خدّيه، وكان يقول:” لو ملكت البكاء لبكيت أيّام الدّنيا “.

ألا ما لعين لا ترى قلل الحمى

ولا جبل الدّيان إلا استهلت

لجوخ إذا الحبّ بكى إذا بكت

قادت الهوى وأحلت

إذا كانت القلوب للخوف ورقّت

رفعت دموعها إلى العين وقت

فأعتقت رقاباً للخطايا رقّت.

من لم يكن له مثل تقواهم، لم يعلم ما الذي أبكاهم، من لم يشاهد جمال يوسف، لم يعلم ما الذي آلم قلب يعقوب، من لم يبت والحبّ حشو فؤاده، لم يدر كيف تفتّت الأكباد. فيا قاسي القلب، هلا بكيت على قسوتك، ويا ذاهل العقل في الهوى هلا ندمت على غفلتك، ويا مقبلاً على الدّنيا فكأنّك في حفرتك، ويا دائم المعاصي خف من غبّ معصيتك، ويا سيّء الأعمال نح على خطيئتك، ومجلسنا مأتم للذنوب، فابكوا فقد حلّ منّا البكاء، ويوم القيامة ميعادنا لكشف السّتور وهتك الغطاء. (1)

قم الليل واترك التكاسل

لله درّ أقوام هجروا لذيذ المنام، وتنصّلوا لما نصبوا له الأقدام، وانتصبوا للنصب في الظلام، يطلبون نصيباً من الإنعام، إذا جنّ الليل سهروا، وإذا جاء النّهار اعتبروا، وإذا نظروا في عيوبهم استغفروا، وإذا تفكروا في ذنوبهم بكوا وانكسروا.

قال عليه الصّلاة والسّلام:” عليكم بقيام الليل فإنّه دأب الصّالحين قبلكم، وإنّه قربة إلى ربّكم، ومغفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم “. وفي المسند عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم:” عجب ربّنا من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين حبّه وأهله إلى صلاته، ورجل غزا في سبيل الله فانهزموا، فعلم ما عليه في الفرار وما له في الرّجوع، فرجع حتى أهريق دمه “.

قال أبو ذر رضي الله عنه:” سألت رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – أيّ صلاة الليل أفضل؟ قال: نصف الليل وقليل فاعله “. قال داود عليه الصّلاة والسّلام:” ياربّ، أي ساعة أقوم لك؟ فأوحى الله إليه: يا داود، لا تقم أوّل الليل ولا آخره، ولكن قم في شطر الليل حتى تخلو بي وأخلوا بك، وارفع إليّ حوائجك “.

وروى عمر بن عبسة، عن النّبي – صلّى الله عليه وسلّم – أنّه قال:” أقرب ما يكون الربّ من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممّن يذكر الله في تلك السّاعة، فكن “. وكان همّام بن الحارث يدعو:” اللهم ارزقني سهراً في طاعتك، فما كان ينام إلا هنيهةً وهو قاعد “، وكان طاوس يتقلب على فراشه، ثمّ يدرجه، ويقول:” طيّر ذكر جهنّم نوم العابدين “.

وقال القاسم بن راشد الشيباني:” كان ربيعة نازلاً بيننا، وكان يصلي ليلاً طويلاً، فإذا كان السّحر نادى بأعلى صوته: يأيها الرّكب المعرسون: أهذا الليل تنامون، ألا تقومون فترحلون، قال: فيسمع من ههنا باك ومن ههنا داع، فإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته: عند الصباح يحمد القوم السّرى “، وقال الضحّاك:” أدركت قوماً يستحيون من الله في سواد هذا الليل من طول الضجعة “.

يا منزل الأحباب أين ساكنوك؟ يا بقاع الإخلاص أين قاطنوك؟ يا مواطن الأبرار أين عامروك؟ يا مواضع التهجّد أين زائروك؟ خلت والله الدّيار، وباد القوم، وارتحل أرباب السّهر، وبقي أهل النّوم، واستبدل الزّمان أكل الشّهوات يا أهل الصّوم.

كفى حزناً بالواله الصّب أن يرى

منازل من يهوى معطلةً قفرا

لله درّ أقوام اجتهدوا في الطاعة، وتاجروا ربّهم فربحت البضاعة، وبقى الثّناء عليهم إلى قيام السّاعة، لو رأيتهم في الظلام وقد لاح نورهم، وفي مناجاة الملك العلام وقد تمّ سرورهم، فإذا تذكّروا ذنباً قد مضى ضاقت صدورهم، وتقطعت قلوبهم أسفاً على ما حملت ظهورهم، وبعثوا رسالة النّدم والدّمع سطورهم.

ولمّا وقفنا والرّسائل بيننا

دموع نهاها الواجدون توقّفا

ذكرنا الليالي بالعقيق وظله

الأنيق فقطعنا القلوب تأسفا

نسيم الّصبا إن زرت أرض أحبتي

فخصّهم منّي بكلّ سلام

وبلغهم أنّي برهن صبابة

وأنّ غرامي فوق كلّ غرام

وإنّي ليكفيني طروق خيالهم

لو أنّ جفوني متّعت بمنام.

جال الفكر في قلوبهم فلاح صوابهم، وتذكّروا فذكروا كذكر إعجابهم، وحاسبوا أنفسهم فحقّقوا حسابهم، ونادموا للمخافة فأصبحت دموعهم شرابهم، وترنّموا بالقرآن فهو سمرهم مع أترابهم، وكلفوا بطاعة الإله فانتصبوا بحرابهم، وخدموه مبتذلين في خدمته شبابهم، فيا حسنهم وريح الأسحار قد حرّكت أثوابهم، وحملت قصص غصصهم، ثمّ ردت جوابهم. (1)

المراجع

(1) بتصرّف عن كتاب مواعظ ابن الجوزي- الياقوتة/ جمال الدين أبو الفرج الجوزي.

Exit mobile version