إسلام

تفسير سورة البلد

تفسير سورة البلد

مقالات ذات صلة

تفسير سورة البلد

الإنسان مخلوق في مشقة وتعب

قال الله -تعالى-: (لَا أُقْسِمُ بِهَـذَا الْبَلَدِ* وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـذَا الْبَلَدِ* وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ* لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ).[١] ويُقصد “بالبلد” مكة المكرمة، ومعنى “حِلٌّ”: أي مقيم بها، أما “ووالد وما ولد”: فهو آدم -عليه السلام- وذريّته، والكبد: هو التعب والمشقة والمكابدة، وتفسير خَلْق الإنسان في كبدٍ يحتمل معانٍ عدّة:[٢]

  • الأول: ما يكابده ابن آدم من شدائد الدنيا، وبعد الموت، وفي يوم القيامة؛ فينبغي عليه أن يريح نفسه بالعمل الصالح ليجلب له السرور.
  • الثاني: إن الله -تعالى- خلق الإنسان في أحسن تقويم، فهو قادرٌ على المكابدة، وعلى تحمّل مشاقّ الدنيا، والقيام بالأعباء؛ فليشكر هذه النعمة.
  • الثالث: إن الآية تحكي قصة رجلٍ يُقال له: أبو الأشدّين، واسمه أُسيد بن كِلدة الجُمَحيّ، كان يقف على الجلد، ويتحدى من يستطيع أن يسحبه من تحته، فلا يستطيع أحد سحبه؛ وذلك لشدته، وقوته، وقدرته على المكابدة.[٣]

يتلخّص مما سبق أنّ الله سبحانه أقسم بعدة أمور لبيان أهميّتها، ولبيان أهمية جواب القسم، وهو أنّه سبحانه خلق الإنسان في حياة كلّها كبد ومشقة، فليحرص على عمل الصالحات لينجو من ذلك في دنياه وآخرته.

وصف إعراض كفار قريش عن الإيمان

قال الله -تعالى-: (أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ* يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا* أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ).[٤] ومعنى “مالاً لبداً”: أي مالا كثيراً جداً لدرجة أنه متلبّدٌ بعضه فوق بعض، وهذه الآية تحكي قصة أحد الرجلين؛ أبو الأشدّين الجُمحي، أو الوليد بن المغيرة، ويمكن القول: تحكي قصّتهما كليهما، فأما أبو الأشدّين؛ فكان يستعمل قوّته في الإعراض عن دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأما الوليد؛ فكان يستخدم ماله المتلبد لكثرته في الصدّ والإعراض عن الدعوة المحمدية.[٥]

ويمكن القول: إنّ كل واحد منهما كان يستخدم ماله وقوته؛ للصدّ عن سبيل الله -تعالى-، وهنا يسأل الله -تعالى- وسؤاله ليس للاستفهام والعلم؛ لأن الله -تعالى- عالمٌ بكل شيء، وهو عالم الغيب والشهادة، ولكن السؤال للتعجب والاستنكار عليهم، فالله -تعالى- يتعجب من فعل هؤلاء، ويسأل: هل يظن صاحب القوة والكبد وصاحب المال اللّبد أنّ الله -تعالى- لا يقدر عليه، أيحسب أنه أكثر قوة ومالا من الله -تعالى-، وهل يظن هؤلاء أن الله -تعالى- لا يراهم، ويرى كيف ينفقون أموالهم في الصدّ عن الدعوة، وهل يظنّون أنهم سينجون، ولا يُحاسبون يوم القيامة.[٥]

يتلخّص مما سبق أنّ هذه الآيات الكريمة نزلت في اثنين -هما الوليد بن المغيرة وأبو الأشدّين- لكونهما يستخدمان القوة والمال للصدّ عن سبيل الله، لكنّ الله قادرٌ على إهلاكهما، وهو يرى ما يفعلون، وسيحاسبهم يوم القيامة على أفعالهم.

الأعمال التي حثّت عليها السورة

فك رقبة 

الرقبة: هو العبد، ومعنى فكّ رقبة: أي تحرير العبيد، وقد حثّ الإسلام على العناية بالعبيد بأشكال كثيرة منها:[٦]

  • الإعتاق، وتحرير العبيد: حث الإسلام على تحرير العبيد حتى جعله في كثير من الكفارات؛ ككفارة اليمين، والقتل غير العمد، وحتى من غير كفارة يستحب استخدام المال في تحرير العبيد؛ لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا، اسْتَنْقَذَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ).[٧]
  • عدم أذيّتهم ولا ضربهم؛ فمن ضرب عبداً ظلماً، جزاؤه أن يعتقه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَن لَطَمَ مَمْلُوكَهُ، أَوْ ضَرَبَهُ، فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُعْتِقَهُ).[٨]
  • الإحسان إليهم؛ بإطعامهم وحسن معاملتهم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ).[٩]

إطعام الطعام

قال الله -تعالى-: (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ)،[١٠] والمسغبة: هي الجوع والمجاعة، وهنا حثٌّ على الإطعام وقت المجاعة؛ لأن الحاجة أكثر، بالنسبة للناس، والمال أعزّ بالنسبة للمتصدّق، ولذا كانت الصدقات عند المجاعات والجوائح أفضل.[٦]

الإحسان إلى اليتيم والمسكين

قال الله -تعالى-: (يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ* أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ)،[١١] والمتربة: أي شديد الحاجة، حتى كأنه ملتصق بالتراب لشدة حاجته، أو هو المطروح في الطريق، وليس له بيت أو سكن يؤويه، فينام على التراب، فتؤكّد الآيات على ضرورة التصدّق على اليتامى والمساكين، وأن من أحسن الصدقات؛ الصدقة على اليتيم.[٦]

وكون اليتيم قريباً، فذلك أدعى للتصدق عليه، وأوجب، والأجر يكون مضاعفاً؛ لأن الصدقة على الفقير أجر، وعلى الفقير القريب، أجران؛ لأنها تكون حينئذٍ صدقة وصلة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الصَّدَقةُ على المِسكينِ صدَقةٌ، وإنَّها على ذي الرحِمِ اثنَتانِ: صدَقةٌ، وصِلةٌ).[١٢][٦]

الذين آمنوا وعملوا الصالحات

قال -تعالى-: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ).[١٣] وقوله (ثمّ) حرف عطف يفيد التراخي، أي الفصل والبُعد عما سبقه من الكلام، والفصل هنا ليس فصلاً زمنياً، بل هو فصل رتبي؛ أي هناك بُعد كبير بين الصفات المذكورة سابقاً وبين صفة الإيمان؛ لأن صفة الإيمان أعلى من كل هذه الصفات.[١٤]

يصف الله -تعالى- أولئك الذين سيجتازون العقبة بأنهم يفكّون الرقاب، ويطعمون اليتامى والمساكين، ثم وصفهم وصفا أخيرا، وهو كالشرط لكل ما سبق، كأنه يقول: ولكن يشترط كي نقبل منكم أعمالكم السابقة أن تكونوا مؤمنين؛ لأن الإيمان بالله -تعالى- هو شرط قبول الأعمال.[١٤]

المتواصون بالصبر

قال الله -تعالى-: (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ).[١٥] فبعد ذكر الإيمان بالله -تعالى- ذكر الصبر؛ لأن الإيمان يحتاج إلى صبر، والصبر لا يكون إلا بالإيمان، فلا يصبر إلا المؤمن، ولا يؤمن إلا الصابرون، وقد وصف الله -تعالى- المؤمنين بأنّ من صفاتهم التواصي بالصبر، أي أنهم يدعون إلى الصبر، ويوصي به بعضهم بعضاً، والصبر المراد هنا تحديداً الصبر على الإيمان، وعلى فك الرقاب، والإطعام.[١٦]

المتواصون بالمرحمة

قال الله -تعالى-: (وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ).[١٥] فلمّا وصف الله -تعالى- المؤمنين بالإيمان والصبر، أعقب الوصف بالرحمة، والرحمة ثمرة من ثمرات الصبر والإيمان، قال الزحيلي: “والرحمة على عباد اللَّه ترقق القلب، ومن كان رقيق القلب، عطف على اليتيم والمسكين، واستكثر من فعل الخير بالصدقة”.[١٧]

ثواب المؤمنين وعقاب الكافرين

قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ)،[١٨] والمشأمة؛ من الشؤم، وتعني الشمال، ومؤصدة؛ أي مغلقة، فبعد وصف المؤمنين وصفاتهم، ووصف الكافرين وصفاتهم، ذكر الله -تعالى- جزاء كلّ منهم، وبيّن أن أصحاب الإيمان هم أصحاب اليمين، ومصير أهل اليمين إلى الجنة، والكافرون هم أصحاب الشمال، ومصيرهم إلى النار المغلقة عليهم أبوابها.[مرجع]

إنّ مايُستفاد من سورة البلد أنّها حثّت على العديد من الأعمال الصالحة، ومنها: عتق العبيد، والصدقة بإطعام الطعام عند المجاعات، والإحسان إلى اليتيم والمسكين، وعمل الصالحات، وأن يتواصى الناس على إشاعة الرحمة والتراحم فيما بينهم وخاصة في الأقارب، بالإضافة إلى الإيمان بالله تعالى الذي يعدّ شرطا لقبول كلّ هذه الأعمال.

التعريف بسورة البلد

سورة البلد، مكية، عدد آياتها عشرون، سميت بهذا الاسم؛ لأنها تتحدث عن أحوال مكة خلال ما قبل الهجرة، ومن مقاصد سورة البلد حديثها عن أحداث الدعوة في مكة، وكيف قابل المشركون دعوة الإسلام، ثم ذكرت بعضاً من صفات المؤمنين والمشركين، ومصير كل أحدٍ منهم.[١٩]

سورة البلد مكية آياتها عشرون، تتحدث عن حال المؤمنين والكافرين، ومصير كل فريق منهم.

سبب نزول سورة البلد

لم يذكر أصحاب كتب التفسير سبباً لنزول السورة، ولم يذكر أصحاب كتب أسباب النزول سبب نزول لها، وهذا يعني أن السورة لم تنزل لسبب معين، وأن سبب نزولها عام، وحكاية قصة الوليد بن المغيرة أو أبي الأشدّين لا يعدّ سببا للنزول، وإنما حكت قصصهم في معرض الحديث، ولم تنزل السورة خصيصاً لتحكي قصتهم كبعض السور التي نزلت لتحكي قصة أو تعلق على حدث.

لم يذكر العلماء سبب نزول لسورة البلد، فليس لسورة البلد سبب نزول محدد.

المراجع

  1. سورة البلد، آية:1-4
  2. عبد الرحمن السعدي (1420)، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (الطبعة 1)، صفحة 924. بتصرّف.
  3. مصطفى المراغي (1365)، تفسير المراغي (الطبعة 1)، صفحة 155، جزء 30. بتصرّف.
  4. سورة البلد، آية:5-7
  5. ^ أ ب البغوي (1417)، معالم التنزيل في تفسير القرآن (تفسير البغوي) (الطبعة 4)، صفحة 430-431، جزء 8. بتصرّف.
  6. ^ أ ب ت ث محمد علي الصابوني (1402)، مختصر تفسير ابن كثير، بيروت – لبنان:دار القرآن الكريم، صفحة 642، جزء 2. بتصرّف.
  7. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبو هريرة، الصفحة أو الرقم:2517، صحيح.
  8. رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن ابن عمر، الصفحة أو الرقم:1657 ، صحيح.
  9. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبو ذر، الصفحة أو الرقم:30، صحيح.
  10. سورة البلد، آية:14
  11. سورة البلد، آية:15-16
  12. رواه أحمد، في المسند، عن سلمان بن عامر الضبى، الصفحة أو الرقم:17872، صحيح لغيره.
  13. سورة البلد، آية:17
  14. ^ أ ب أبو حيان الظاهري (1423)، البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (الطبعة 2)، بيروت:دار الكتب العلمية، صفحة 306، جزء 7. بتصرّف.
  15. ^ أ ب سورة البلد، آية:17
  16. سعيد حوّى (1409)، الأساس في التفسير (الطبعة 6)، القاهرة:دار السلام ، صفحة 6531، جزء 11. بتصرّف.
  17. د وهبة بن مصطفى الزحيلي (1418)، التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج (الطبعة 2)، دمشق: دار الفكر المعاصر، صفحة 252، جزء 30. بتصرّف.
  18. سورة البلد، آية:19-20
  19. الآلوسي (1415)، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (الطبعة 1)، بيروت: دار الكتب العلمية، صفحة 349، جزء 15. بتصرّف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى