محتويات
'); }
الفقه
يعدّ القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة هما أصل الفقه في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وممّا لا مجال للشك فيه، أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قد وقع منه الاجتهاد فيما لا نص فيه من كتاب أو سنة، كما في كثير من القضايا والخصومات وأمور الحرب، وغيرها من الأمور المتعلقة بسياسية الدولة وتطبيق الأحكام.
ولم يكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بحاجة إلى وضع قواعد يسير عليها في تشريعاته، وضوابط لا يتعدّاها في فتواه وأقضيته؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- كان أعرف الناس بكيفية دلالة النصوص على الأحكام مباشرة أو بواسطة، ولأن الاجتهاد مبني على العلم بمعاني النصوص.
ويعتبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسبق الناس في العلم وأكملهم فيه، حتى كان يعلم بالمتشابه الذي لا يعلمه أحد من الأمة بعده، وكان عالماً بمعنى النص الذي هو متعلق الحكم لا محالة، وكان -عليه الصلاة والسلام- إذا اجتهد في أمر راعى شواهد الحال والأمارات، وقد يرجح حالة على أخرى لكون مصلحة الأمة تقتضي ذلك.
'); }
تاريخ أصول الفقه
أذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه بالاجتهاد، فاجتهدوا في حضوره وفي غيبته، فكانوا إذا ابتعدوا عن المدينة وعسر عليهم مراجعة النبي -صلى الله عليه وسلم- أفتوا بكتاب الله، الذين عرفوا أسباب نزول آياته ودلالات ألفاظه، فإن لم يجدوا فيه طلبهم لجؤوا إلى السنة الصحيحة التي حفظوها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإن لم يجدوا فيها حكم ما عرض لهم اجتهدوا بآرائهم، فإذا رجعوا إلى المدينة عرضوا الأمر عليه -صلى الله عليه وسلم-، فيوقفهم على حقيقة الأمر من الخطأ أو الصواب. وكان -صلى الله عليه وسلم- يسر باجتهادهم في مثل هذه الظروف.
كما أنّ بعض الصحابة في أيام زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كانوا يحاولون الاجتهاد في الكثير من الأحكام، والتي كانوا يحاولون الوصول إلى فتاوٍ قاطعة في العديد من الأحكام، وحين جاء أمر الرسول لهم أن يصلوا في بني قريظة، قام البعض بالاجتهاد والصلاة في الطريق.
ولمّا كان علي -رضي الله عنه- باليمن أتاه ثلاثة نفر يختصمون في غلام، فقال كل منهم: هو ابني، فأقره بينهم، وجعل الولد للقارع، وحصّل علي للرجلين ثلثي الدّية، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فضحك حتى بدت نواجذه من قضاء علي.
ومن هذا يتضح لنا أن الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا في عصر النبوة يقضون ويفتون بكتاب الله وسنة رسوله، ويستنبطون فيما لا نص فيه بملكتهم التشريعية، التي ركزت في نفوسهم من صحبتهم له -عليه الصلاة والسلام-، ووقوعهم على أسباب نزول الآيات وورود الأحاديث، وفهم مقاصد الشارع، ومبادئ التشريع، وفوق هذا طُبِعوا عليه من حدّة الذهن، وصفاء الخاطر، وسمو الفهم، ومن ثم فلمَ يكونوا بحاجة إلى وضع أصول وقواعد في علم العربية أو سواها يسيرون عليها في اجتهادهم؛ لأن ذلك فيهم سليقة، ولهم طبيعة.
ولمّا التحق الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالرفيق الأعلى وانقطع الوحي بذلك، وجد الصحابة أنفسهم أمام حوادث كثيرة أخذت تتزايد يوماً بعد يوم كلما اتسعت رقعة الإسلام أكثر فأكثر، ولم تكن هذه الحوادث والوقائع تندرج تحت نصوص الكتاب والسنة، الأمر الذي دفعهم إلى ولوج باب الاجتهاد، وإلحاق الأشباه بالأشباه والأمثال بالأمثال.
نهج الصحابة في استنباط الأحكام
يقول ابن خلدون في مقدمته: (إنّ الحياة كانت في عهد الرسول تسير في الأحكام التي كان يتلقاها من الوحي جبريل -عليه السلام-، والتي كان ينزل بها على الرسول سواء من خلال القرآن أو من خلال الوحي العادي، وكان الرسول يحاول تبيان جميع الأمور الفقهية للصحابة سواء في أفعاله أو أقواله، وكان الصحابة يتسابقون في النقل عن رسول الله، وحفظ الأحاديث والمسائل الفقهية).
أما من خلال السنة فقد تم الإجماع من الصحابة على وجوب العمل بما كان يؤخذ عن الرسول سواء في الفعل والقول، وأن يتم الأخذ بالأمور التي كان فيها ثقة بأنها منقولة بشكل صحيح عن الرسول، ولا يتم الأخذ سوى بالأمور التي يجمع عليها جميع الصحابة، أما تلك التي يحدث فيها بعض الإنكار لا يتم الأخذ بها.
وما نؤكّد عليه أنّ الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا منضبطين في اجتهادهم بقواعد علم الأصول ومناهجه، إذاً لا اجتهاد بغير منهج، ولا استنباط من غير قاعدة، غير أنهم لم يكونوا بحاجة إلى تدوين هذه القواعد للأسباب التي سبق ذكرها.
قواعد ومناهج في فقه الصحابة
ظهرت بعض هذه القواعد والمناهج في فقه الصحابة والتابعين عند استدلالهم على آرائهم، ومناقشة آراء المخالفين لهم، ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح في الحوادث والوقائع الآتية:
- عندما اختلف الصحابة في توزيع الأراضي التي غنمها الفاتحون في العراق ناقش عمر بن الخطاب معارضيه، ثم تمسّك بضرورة الدفاع عن البلاد، وحاجة ذلك إلى موارد ثابتة، وأن هذه المصلحة عامة يجب تقديمها على المصلحة الخاصة للجنود المقاتلين، وموقف عمر هذا يستند إلى قاعدة أصولية راعاها التشريع في أحكامه، وهي تقديم المصلحة العامة عند التعارض.
- وتطبيقاً لهذا الأصل، وإعمالاً لتلك القاعدة الأصولية، منع الصحابة أبا بكر -رضي الله عنه- حين تولى الخلافة من التجارة، على أن تكون كفايته في بيت مال المسلمين؛ لأن النظر في مصالح المسلمين من المصالح العامة، فيجب تقديمها على مصلحته الخاصة في اتخاذ الحرفة التي يريدها والتجارة التي يرضاها.
- حينما تكلّم الصحابة في حد شارب الخمر استدل علي-رضي الله عنه-على حد شارب الخمر ثمانين جلدة، وهي واقعة لا نص فيها: (إذا شرب هذى، وإذا هذى افترى، فيكون عليه حد المفتري) أي القاذف، وهو بهذا يقرر قاعدة من قواعد الاجتهاد، تصرف الشارع على وفقها، وراعاها في تشريع الأحكام، وهي قاعدة (إقامة مظنة الشيء مقام نفس الشيء، وإعطاء المظنة حكم المظنون)، وهي القاعدة التي أطلق عليها الأصوليون فيما بعد (سد الذرائع).
- واستدل ابن مسعود على أنّ عدة المتوفى عنها زوجها تكون بوضع الحمل، لقوله تعالى: “وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن”، ولما عورض بقوله تعالى في سورة البقرة: “والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً”، قرر قاعدة أصولية راعاها في اجتهاده، فقال:( أشهد أن سورة النساء القصرى -يعني سورة الطلاق- نزلت بعد سورة النساء الطولي -يعني سورة البقرة-)، ومعنى هذا القول أن النص المتأخر ينسخ النص المتقدم أو يخصصه.
وهكذا نجد أنّ الصحابة -رضوان الله عليهم- قد تقيًدوا في اجتهادهم بقواعد أصولية، وإن لم تكن بهم حاجة إلى تدوينها في ذلك الوقت.
الشافعي أول من دون علم أصول الفقه
قبيل كتابة الشافعي لرسالته كان النزاع قد اشتدّ بين أهل السنة وأهل الرأي الذي يضمّ القياس والاستحسان، وكان لا بدّ من وجود قواعد مدونة تكون مرجعاً لفض النزاع، ولم يكن تحصيل هذه القواعد والقوانين بالأمر السهل، وليس بإمكان أي عالم أن يقوم بهذه المهمة؛ ذلك أن وضع نظام موحد أو شبه موحد لطريقة استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها أمر في غاية الخطورة والأهمية.
كما أنّ هذه المهمة تقتضي فيما تفتضيه اطلاعاً واسعاً على مقاصد الشارع، وقدرة على إدراكها ومعرفتها من خلال كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وإلماماً شاملاً بمذاهب العلماء ومدارك فقههم من عهد الصحابة حتى وقته، ومعرفة تامة بلغة العرب، وذلك لا يتيسر إلا لقليل نادر ممن يهبهم الله القدرة على كل هذا؛ ليعز بهم دينه وشريعته. فقيّض الله بهذه المهمة عالم قريش الإمام الشافعي -رضي الله عنه-، وكان حقيقاَ بها وأهلاً لها، فشرع -رحمه الله- في كتابه الذي يعرف بالرسالة، حيث حرر فيها المباحث، وحقق الدقائق، وحلّ المشاكل، ورتّب المسائل.
هذا وأكّد جميع العلماء على أن الشافعي -رحمه الله- بقيامه بإنجاز هذا المؤلف يكون أول من جمع قواعد علم الأصول ودوّنها، واستدل على اعتبارها، ثم استنبط منها ما لم يكن الفقهاء السابقون قد استنبطوه منها.