محتويات
'); }
المقدمة: الفرح عمّ الأرجاء والمنازل
حالما يقرر شخصٌ ما الزواج في القرية، يصبح الفرح عامًا يجوب كافة المنازل ويعم الأرجاء، وتلبس جميع النساء أجمل ثيابها وأثمنها، ويتراكضُ الأولاد فرحين يتسابقون في خدمة أصحاب الفرح. أما بنات الحي الجميلات فيبدأن بشراء قطع القماش الجميلة من أجل تفصيل فساتينَ خلابة بألوان زاهية، فتبدو كل فتاة أجمل من الأخرى حتى يظن الرائي أنه عرسٌ كبير لعرائس كثر، فتعلو الفرحةُ وجوه جميع الناس وكأن الفرح فرحهم جميعًا، وكأن العروسين هما أبناء القرية كلها.
العرض: عرس البلدة لا عرس العائلة
لو زرت عرسًا شعبيًا لأذهلتك كثرة المنازل المُضاءة، فلا تدري لأيٍ منهم الفرح، فكلهم سعداء وبيوتهم منيرة والحي بأكمله يعجُّ بالفرح، ما أجمله من عرسٍ أُقيم في حيِّنا حيثُ بدأت الأفراحُ والليالي الملاحُ منذ أسبوع ولم تتوقف أغاني الفرح في البلدة حتى الآن.
الكل يغني فرحًا وسعادةً لأن واحدة من بنات الحي ستُزفُ إلى أحد الشبان من ذات الحي، ولا يسعنا سوى أن نكون سعداء مبتهجين، فالفرحةُ عمت الأرجاء وبدأت التحضيرات على كافة الأصعدة، حتى إنك لتجدُ في كل بيتٍ تحضيراتٍ خاصةٍ من ملابس الكبار والصغار وملابس النساء والرجال لذلك الفرح الكبير الذي سيأتي خلال أيامٍ قليلة. ما يميز عرسنا الشعبي أنه ليس هناك دعوات، الكل مقدرٌ له أن يأتي دون دعوة ودون إذن، لأن الفرحَ فرحُ البلدة كلها لا فرح عائلة بحد ذاتها، فالعروسان أبناء البلدة بلا شك، حتى لتظن أنَّ جميع الأمهات هن أم العريس أو أم العروس؛ من شدة ما ترى في وجوههن من فرحة
'); }
أما رجال البلدة فيهبون للمساعدة على قدمٍ وساق، يساهمون في تحضيرات العرس من أموال ومقاعد وكل ما يمكنهم تقديمه، حتى أنه قد يتطوع أحد رجالات الحي بوليمة العشاء الخاصة بالعروسين وقد يجعلها أكبر فيذبحُ من أجلها الذبائح، ولا يبالي بما قدم فالعروسان هم أبناؤه.
عندما يأتي يوم الزفاف وهو اليوم الموعود تبدأ الأغاني من الصباح الباكر ويتم اختيار مكان واسع لإقامة حفلة النساء فيه، ويتم اختياره ليكون غيرَ مكشوف كي تتمتع النساء بالراحة ويلبسن ما يرغبن به، وتجلس العروس على مقعد مقابل لجميع النساء ويكون مرتفعًا بعض الشيء.
أما النساء فيوضع لهن العديد من الكراسي من أجل الجلوس عليها، كما تترك مساحةٌ فارغة للرقص والغناء، وتلبس العروس ملابسَ جميلةً بيضاءَ اللون طويلةً، وتحتوي بعض الزخارف اللامعة، حيث يُفصل عند إحدى نساء الحي الماهرات في الحياكة، كما تلحقهُ بغطاء للرأس ويسمى “الطرحة” وهو غطاء طويل حتى آخر الظهر ولكنه شفاف وجميل.
وما إن يبدأ الحفل حتى تنزل جميعُ الفتيات للرقص بفرحٍ كبير وسعادةٍ ليس لها مثيل، وتكون العروس في قمة حيائها وسعادتها فقد جاء اليوم الموعود وجاءت صديقات العروس ليجبرنها على النزول عن عرشها لترقص معهنَّ.
تنزل العروس على استحياءٍ كبير، وفي عينيها بريقُ أملٍ لا يتوقف، فتبدأ الزغاريد منطلقةً على عجل من أفواه نساء الحي ويشتدُّ الفرح وتعلو الضحكات، وتصدح الأغاني، حتى تبلغ آذان الرجال في الخارج، ولكن الصوت يأتيهم ضعيفٌ متقطع بسبب علو صوت الفرح عندهم فهم أيضًا منشغلون في سعادتهم، والعريس يتطاير بين أيديهم ومن ثم يهبط.
كبار السن من الرجال يصفقون بفرح وكل منهم تعلو محياهُ ابتسامةٌ لا مثيل لها، يتمايلون ويغنون الأغاني الخالدة التي ما انمحت من أدمغتهم، أغاني تقليدية قديمة جميلة، تحمل من المعاني التي لا يشبهها شيء في الوجود، تفوح منها رائحة العراقة والقِدم، سمعوها آخر مرةٍ منذ سنين ولكنهم حفظوها عن ظهر قلب وظلوا يرددونها على مسامع أبنائهم وأحفادهم علّها تنتقل إليهم ويحفظونها لتظل إلى ما لا نهاية.
وبين لحظةٍ وأخرى يأتي شبانٌ صغار ليوزعوا القهوة والماء والشاي المعطر بالهال الأصيل صنعوه في قدورَ عظيمة لا يُصنع فيها الشاي إلا في هذا اليوم من باب حسن الضيافة والكرم.
وما إن ينتهي ذلك العرس الجميل حتى تقوم النساء بتجهيز العروس ولف العباءة السوداء حول جسدها وإنزال الطرحة على وجهها كي لا يكشفها الرجال، ثم يدخل والد العروس وإخوتها وأعمامها وأخوالها يمسكون بيدها بعد أن يسلموا عليها ومن ثم يأخذونها نحو الباب ليأخذ بيدها العريس الذي سيسطحبها لتعيش معه في سعادة.
سيحبها ويحتويها وتحبه وتحتويه ويسألان الله أن يجعل بينهما سكنًا ومودةً، كما يحتوي الأسد أنثاه ويحفظها ويصونها في عرينه البسيط، فهو يعلم أنها أمانة ينبغي عليه صيانتها وحمايتها والإنفاق عليها بما يرضي الله.
وما إن تصل العروس بيت زوجها حتى يفارقها الأهل والأحبة وتنتهي بذلك مراسم الفرح الجميل التي جعلت قلوب كل من في الحي فرحين سعداء مبتهجين ولا تنتهي الفرحة عند ذلك اليوم، ولكن الحيَّ كلَّه يظل عامرًا بالفرح سعيدًا مغتبطًا وينتظرون باشتياق قدوم عرسٍ جديد يملأ البلدة فرحًا وسعادةً.
ولا يعود الناس في نهاية الفرح إلى بيوتهم وإنما يساهمون جميعًا في تنظيف المكان وترتيبه، أما النساء فيقفن معًا في صف واحد لتنظيف مكان العرس من الداخل من كنسٍ وتنظيفٍ وترتيبٍ ولا يعدن إلى بيوتهن إلا وقد انتهين من كل شيء.
الخاتمة: البساطة عنوان أفراحنا
وختامًا، تعتبر أفراح بلدتنا رمزًا للبساطة والتميُّز فهي لا تكلف الكثير من الأموال الباهظة، فلا تقام في أرقى الصالات وإنما تقام في أماكن بسيطة في زاوية من زوايا الحي.
فبالرغم من بساطتها تجد أن العروسين من أسعد الناس قلوبًا، وأفواههم تصدحُ بالأغاني، إذ تقوم نساء الحي بإعداد الحلويات بهدف تقديمها في العرس، بمواد بسيطة غير مكلفة وهي من إنتاج مزارع البلدة، كما تتكون ملابس العروسين من أقمشة جميلة تُفصل عند أحد الخياطين هناك وليست قادمة من باريس أو سويسرا ولكنها تفوقها جمالًا وأناقة.