محتويات
'); }
الصحراء
المقدمة: الصحراء اتساع لا نهائي
إذا ما شعر الإنسان بالضّيق والألم، فأول ما يسيطر على أفكاره أن يأوي لمكان فيه الكثير من المتّسعات التي تحمل عنه بعض همومه وآلامه، ومن الأماكن التي حملت عن الإنسان بعض أوجاعه هي الصّحراء، فهي مساحةٌ واسعة ورحيبة ناعمة وذهبية، فهي تلك المساحة غير المتناهية، والتي تتيه عبر رمالها آلامك وأوجاعك، ويحمل عنك ذاك الأفق الصحراوي الواسع الكثير همومك التي خرجت هربًا منها.
العرض: الحياة في الصحراء ديمومة السفر والبحث
إنّ الصحراء من التّضاريس الطّبيعةِ التي خلقَها الله تعالى وحَباها بالكثير من الخصال الجمالية ومواطن السحر التي ربما لن تكون إلا في تلك الكثبان الرّملية المتناثرة على الأرض الواسعة كأمواج البحر، وعلى الرغم من قساوة حياة الصحراء وظروفها التي لا تخفى على أحد، إلا أنّ لها خصوصية مميزة لا تتوفّر في غيرها من التّضاريس والمناطق الأخرى، فالصحراء يميزها ليلها الهادئ وسماؤها.
'); }
تتناثر في تلك السّماء نجماتٌ لامعةٌ تعكس ضوءها على حبيبات رمل الصّحراء، لتخفي بين رمالها تلك اللمسات التي تشير بالبنان إلى السكينة التي يستشعرها المرء حينما يكون ضيفًا على أرضها، فالصحراء جمالها ساحر وهواؤها نقي، وما يزيد ذاك الجمال هي تلك الكثبان الرّملية التي تبدو للرائي كرداء مهد حريري مذّهب، وأكثر ما يأسر القاطن فيها هو منظر غروب شمسها، والذي يتدرج من ذاك اللون البرتقالي إلى الأحمر، فتعجز أية لوحة فنية أن تضاهي جمال وإبداع الخالق في هذا الجمال الرّباني.
عالم الصّحراء هو عالمٌ مزدحمٌ بالسِّحر والجمال الرّباني الذي أبدعه الخالق، إذ إنّه جمالٌ هادئٌ ولطيفٌ يوحي بالسّكينة والطمأنينة في قلب الإنسان، وفي النّهاية يُمكن القول إنّ المرءَ عندما يرى الصّحراء سيشعر أنّ الحياة بأكملها قد تمثّلت له بوجوهها المتعددة، ومن بين تلك الأوجه وجه الصحراء الذي كشف النّقاب عن الهدوء الذي يُخبئ في رماله الكثير من القصص المروية عبر الحضارات والأزمنة المتتالية.
لقد خُلق الإنسان، وفي روحه ذاك الشّغف للبحث والسّفر واكتشاف المجهول، فكانت أولى البقاع التي أراد اكتشافها تلك الرّمال التي اختزنت الكثير من الحكايا والرّوايات، والتي شهدت الكثير من التّنقلات البشريّة عليها، فقد أوحت تلك الصّحراء كل من يقطن في جنباتها الحكمة والشعر والأدب، وقد ظهر هذا بشكلٍ واضحٍ وجليّ في تأثير الصحراء على نفوس العرب القدماء الذين عاشوا معها حياة البداوة.
الحياة في الصحراء تبعث في روح من يقطنها الصبروالأناة، فهو دائم الصبر على قساوة العيش وقساوة الطقس من قلة الطعام والماء، وقد أجاد الشّعراء، وأبدعوا في وصف تلك الصّحراء، فعدُّوها بأنّها مساحة خاصّة من الأفكار، بل هي المرأة بحدّ ذاتها وما تنطوي عليه من حنان وقسوة، فذلك الرمل الذّهبي يملك خصائص فذّة ينحني له الجبين.
عندما يسافر المرء في رحم تلك الصّحراء سيتمكن من أن يفرد أفكاره كمساحتها الشّاسعة، ويبعثرها مع بعثرة رماله ويرتبها كترتيب كثبانها، فيعيد تنظيمها كما يشاء ويهوى، فالصّحراء بما تملكه من متناقضات ستبقى ممتدة إلى آخر نقطة ينظر إليها الإنسان، فهي واسع سعة البحر وناعم نعومة الحرير، ودافئةٌ دفء حضن الأم الرّؤوم، وستبقى كلوحة فنية عصية على التكرار مهما طاول الفنان بإبداعه عنان السماء.
فالصّحراء ليس لها تلك الحدود التي تقيدك وتحجز أفكارك ونظرك المتأمل، بل هي ذاك الاتّساع الذي لن يحدّ ناظريك، فلا أحجار تؤذي قدميك أثناء خطاك العبثيّة، فأنت في قلب الصّحراء ستمشي وذهنك الصّافي وفكرك المنطلق لا يقيد عنانه شيء، فإذا تعبت يومًا ستجد أنّ الصّحراء قد فرشت لك على رمالها دروبًا جديدةً مهّدتها بنعومتها؛ وذلك حتى تستريح أنّى شئت لتواصل السير فيما بعد، وتعطر أنفاسك بشذى الحرية العابق في أطرافها المترامية، فتحتفظ كثبان الرّمال بأثرك بعد أن غصت في أعماقها وتركت بعضًا منك فيها.
فخططت بصفحاتها كلّ ما يجول بخاطرك من أفكارٍ مبعثرة، ورسمت بأناملك في أفقها كل تلك الأحلام الوردية التي تعانقت مع أحلام من قبلك ممن مرّ بها يومًا، فكانت عصاك هي الهادي الوحيد لك في امتدادها اللا محدود، فإذا ما تجولت بين ذرّاتها الذّهبيّة ستجد أنّه بتجولك ذاك، إنّما تفقد جزءًا منك يلتحم في مساحاتها الشّاسعة، وليذهب عقلك فيما بعد إلى عالم الخيال الجميل الذي اتّحد مع شساعة المكان وهدوئه.
وإذا ما تنقّل المتأمل بنظره إلى ذاك الأفق الواسع وتلك السّماء الشّاسعة في لحظات غروب الشّمس ووداعها لأحضان الصّحراء التي أحبّت أشعتها على الرّغم من حرارتها الشّديدة، فتظهر تلك الألوان كمنظرٍ خلّابٍ يأسر العقول ويذهل الأبصار، حيث لا ندري أكانت السماء انعكاسًا للمعان رمال الصّحراء الفتّانة، أم أنّ الصّحراء كانت كصفحة تتوزع عليها أشلاء أشعة الشمس الملوحة لها بيدها معلنة زوالها، وعلى الرّغم من شمس الصّحراء اللاهبة إلّا أنّك لن تملك إلّا الوقوف حزينًا على غروب الشّمس متأمّلًا ذاك المنظر المهيب.
إنّ الحياةَ في الصحراء وثناياها تعدُّ أكبر مُعلّمٍ للإنسان؛ فيمكن للشّخص الذي كابد الحياة على كثبانها أن يأخذَ منها الدروس والعبر العظيمة، وذلك لأنّ مّن يعايشها سيتعلم منها الكثير، فلرمالها قوّةٌ تاريخيّةٌ جبّارة فهي تروي سيرة الأجداد والآباء القدماء، إضافة إلى القصص وروايات القبائل التي كانت تقطنها في أحد الأيام، ففيها مخزون كبير من تلك الأسرار المخبّأة بينَ ثناياها، فالصحراء عالمٌ مليءٌ بالإثارة والدهشةِ.
الخاتمة: الصحراء فضاء للتأمل والتفكير
التّأمل والتّفكر هو ما خُلق الإنسان من أجله وهو ما يسرّي عن الإنسان همّه وحزنه، وتُعد الصحراء الملجأ الأول لكل هواة التّأمل والتّفكير والمغامرة في غياهب هذه الحياة، فيسير بين ذرات رمالها كلُّ من لا يقبل الحدود في حياته، فالحالم يتأمّل في سمائها ورمالها التي لا يحدّها صخٌر ولا يعيقها حدود، فيشعر في أنفاسه بالحرية والسّلام اللذين يعدّان شقين متلازمين لحياة الصّحراء والبادية بكل مسمياتها.