ابن الفارض والحب الإلهي

'); }

الحياة الصوفية عند ابن الفارض

يعد ابن الفارض من أهم الشعراء المتصوفين؛ فقد عاش أغلب حياته في مصر، ولقب بسُلطان العاشقين؛ وذلك لأنه ارتقى إلى حد كبير في الانتشاء والترنم بالعشق الإلهي، ووصل إلى درجة لم ينافسه أحدٌ فيها.[١]

ولد ابن الفارض لعائلة مصرية المنبت، وكان أبوه عالمًا ورعًا، وبدأ ابن الفارض حياته الصوفية في مرحلة مبكرة من عمره؛ فقد كان يمضي وقتًا كبيرًا وحده، ويمارس خلوته يوميًا، عندما يذهب إلى وادٍ يسمى بوادي المستضعفين، وكان يلتحق بمدارس العلم والحلقات التي يقيمها العلماء الكبار، وتتلمذ ابن الفارض على يد الإمام الشافعي.[١]

ويصف أبو العلا عفيفي ابن الفارض بأنّه: “أحد أقطاب العاشقين، وأعظم شاعر صوفي في اللغة العربيّة على الإطلاق، فقد أمضى معظم حياته يعبد الله، ويتقرّب إليه من خلال أشعاره، التي بثّ من خلالها مختلف صور الحب الإلهي؛ فقد تغنّى ابن الفارض في جمال هذا الكون، وجعل من ولعه بالنظر إلى جمال الكون، وسيلة ليعبّر من خلالها عن حبه لله، وتجاوزه للعالم المادي.[٢]

'); }

فيصل إلى آخر مراحل التجلي وهو عالم الخلود، فيتجلى الله في هذا العالم عبر معجزات الوجود، التي تحيط بالإنسان من كل جانب، وكل دلالة من دلالات هذا الوجود تعني الوجود الإلهي في أسمى معانيه، ولكن ليس من خلال المادة، فالحب الذي ينشده ليس ماديّاً، بل يسمو على المادة ليصل إلى الله تعالى.[٢]

وكي يحب الإنسان الله، يتوجّب عليه أن يتحرّر من سطوة العالم المادي، التي تفرض سلطتها على الإنسان من كل جانب، وفكّ الحصار هذا يوجب على الصّوفي أن ينطلق في آفاق الكون باحثًا عن سرّ الوجود.[٢]

تمثلات الصوفية في شعر ابن الفارض

تميزت أشعار ابن الفارض بالألفاظ الإسلامية، وهذا يعود إلى طبيعة البيئة التي نشأ فيها، وتميزت بالألفاظ الغزلية ألفاظ الخمور، وكلها إحالات إلى الحب الإلهي، وتدل على أمور تتجاوز العالم المادي؛ لذلك لا يجب أن تأخذ بصورة حرفية.[٣]

ومن الناحية الأسلوبية، فقد تعددت الأساليب التي استخدمها ابن الفارض في قصائده الصوفية، مثل: أسلوب الشرط، وأسلوب النداء لمناجاة الله وكثرة التقرب إليه، فقد غلب استخدام أداة النداء “يا” في قصائده؛ للتعبير عن التوق إلى الله، والحب الإلهي الفائض، وعملت هذه الأساليب على إثراء محتوى قصائده، فأصبحت مرجعًا مهمًا؛ لدراسة أساليب اللغة العربية.[٣]

أما من ناحية الإيقاع، فقد نظم ابن الفارض التائية على البحر الطويل، وهو بحر عظيم الأبهة بحسب توصيف النقاد، وأكثر الشعراء القدماء من استخدامه، وكان حرف التاء هو قافية قصيدة نظم السلوك، وهي أشهر قصائد ابن الفارض على الإطلاق.[٣]

كما استخدم التكرار أحد أساليب الإيقاع الداخلي، واتخذ أنماط التكرار الحرف صوتًا، وتكرار الحروف التي تكون على شكل أدوات مثل: أي ويا للنداء.[٣]

أبرز الآراء النقدية حول تصوف ابن الفارض

اهتم الباحثون في أشعار ابن الفارض بشكل عام، والشعر الصوفي بوجه خاص، ووجهت العديد من الانتقادات إلى الشعر الصوفي عند ابن الفارض، أهمها ما يأتي:

  • تكثيف الرموز في القصائد الصوفية؛ وذلك بسبب إثراء القصيدة بالدلالات، التي تجعل الإنسان يرتقي من العالم المادي والحسي إلى العالم الروحي، لكن هذه الرموز أثرت على مستوى الوضوح في القصيدة، وبدا وكأنه متعمدًا.[٤]
  • الإفراط في الذاتية، ويظهر بشكل جلي في اللغة الصوفية عند ابن الفارض؛ فهي لا تخضع لقوانين ثابتة، لكنها تخضع لإشارات ابن الفارض الذاتية.[٤]
  • الإفراط في توظيف الرموز والإشارات الصوفية أدى إلى تأسيس ما يُعرف بمعجم مصطلحات الصوفية، والمدونة الجامعة، لمصطلحات الصوفية، وأصبح المصطلح الصوفي علمًا قائمًا بذاته.[٤]

نماذج من شعر التصوف لابن الفارض

هناك العديد من النماذج التي تعد تمثيلًًا لفلسفة الحب الإلهي عند ابن الفارض، أهمها ما يأتي:

  • تائية ابن الفارض، ويقول في مطلعها:[٥]

سَقَتني حُمَيَّا الحُبَّ راحَةَ مُقلَتي

وَكَأسي مُحَيَّا مَن عَنِ الحُسنِ جَلَّتِ

فَأَوهَمتُ صَحبي أنَّ شُربَ شَرابهِم

بهِ سُرَّ سِرِّي في انتِشائي بنَظرَةِ

وبالحَدَقِ استغنَيتُ عن قَدَحي ومِن

شَمائِلِها لا من شَموليَ نَشوَتي

ففي حانِ سُكري حانَ شُكري لِفِتيَةٍ

بِهِم تَمَّ لي كَتمُ الهَوَى مَعَ شُهرَتي

وَلَمَّا انقضى صَحوي تَقاضَيتُ وَصلَها

وَلَم يغشَني في بَسطِها قَبضُ خَشيَةِ

وَأَبثَثَتُها ما بي وَلَم يكُ حاضِري

رَقِيبٌ لها حاظٍ بخَلوَةِ جَلوَتي

وقُلتُ وحالي بالصبَّابَةِ شاهدٌ

وَوَجدي بها ماحِيَّ والفَقدُ مُثبِتي

هَبي قَبلَ يُفني الحُبُّ مِنِّي بَقيَّةً

أَراكِ بِها لي نَظرَةَ المتَلَفِّتِ

ومُنِّي عَلى سَمعي بلَن إن مَنَعتِ أَن

أَراكِ فمِن قَبلي لِغيرِيَ لذَّتِ

  • قصيدة أرى البعد لم يخطر سواكم على بالي، ويقول فيها:[٦]

أرى البُعْدَ لم يُخْطِرْ سواكم على بالي

وإن قَرّبَ الأخطارَ من جسدي البالي

فيا حبّذا الأسقامُ في جَنبِ طاعتي

أوامِرَ أشواقي وعصيانِ عُذّالي

ويا ما ألذّ الذلّ في عِزّ وَصْلِكُمْ

وإن عَزّ ما أحلى تقَطُّعَ أوصالي

نأيْتُمْ فحالي بَعدكُمْ ظَلّ عاطِلاً

وما هوَ مِمّا ساء بل سَرّكُمْ حالي

بَلَيْتُ بِهِ لمّا بُليتُ صَبابةً

أبَلّتْ فلي منها صُبَابَةُ إبلال

نَصَبْتُ على عيني بتَغْميضِ جَفْنِها

لِزَورَةِ زُورِ الطّيف حيلةَ مُحتال

فما أسعَفَتْ بالغُمضِ لكِن تعَسّفت

عليّ بدَمْعٍ دائمِ الصّوبِ هَطّال

فيا مُهْجَتي ذوبي على فَقْدِ بَهْجَتي

لِتَرْحَالِ آمالي ومَقْدَمِ أوجالي

  • قصيدة نعم بالصبا، ويقول فيها:[٧]

نَعَمْ بالصَّبا قلبي صبا لأحِبّتِي

فيا حبّذا ذاك الشَّذى حينَ هَبَّتِ

سَرَتْ فأَسرَّتْ للفؤادِ غُدَيَّةً

أحاديثَ جيرانِ العُذيبِ فَسَرَّتِ

مُهَيْمِنَةٌ بالرَّوضِ لَدْنٌ رِداؤُها

بها مرضٌ من شأنِهِ بُرْء عِلَّتي

لها بأُعَيْشَابِ الحِجَازِ تَحَرّشٌ

به لا بخَمْرٍ دونَ صَحبيَ سَكْرَتي

تُذَكِّرُني العَهْدَ القَديمَ لأنَّها

حديثَةُ عَهْدٍ من أُهَيْلِ مَوَدَّتي

أيا زاجراً حُمْر الأَوارِكِ تارِكَ ال

مَوارِكِ من أكوارها كَالأريكَةِ

لَكَ الخيرُ إِن أَوضَحتَ تُوضِحُ مُضحيًا

وجُبْتَ فيافي خَبْتِ آرامِ وَجْرَةِ

المراجع

  1. ^ أ ب األب جوزيف سكاُتولِين، عمر بن الفارض وحياته الصوفَّيـة من خالل قصيدته التائَّيـة الكبرى د ارسة تحليلَّيـة بلاغَّيـة، صفحة 1-10. بتصرّف.
  2. ^ أ ب ت فاتح عسّاف، الحب الإلهي عند الصّوفيّة حب بلا كراهيّة، الأردن:جامعة فيلادلفيا، صفحة 9-10. بتصرّف.
  3. ^ أ ب ت ث حربي نعيم محمد الشبلي وأحمد سالم عبيد الشمري، لغة الشعر عند ابن الفارض قصيدة نظم السلوك أنموذجاً، صفحة 203-211. بتصرّف.
  4. ^ أ ب ت بولعشار مرسلي، الشعر الصوفي في ضوء القراءات النقدية الحديثة ابن الفارض أنموذجًا، صفحة 141-150. بتصرّف.
  5. “سقتني حميا الحب راحة مقلتي”، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 18/10/2021. بتصرّف.
  6. “أرى البعد لم يخطر سواكم على بالي”، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 18/10/2021. بتصرّف.
  7. “نعم بالصبا قلبي صبا لأحبتي”، الديوان، اطّلع عليه بتاريخ 18/10/2021. بتصرّف.
Exit mobile version